كرَّس العالم، مجدداً، حُكم الأقليات في العالم العربي، بتمكين النظام العلوي السوري من السيطرة على سورية من جديد، بعد أن تركوه يدمرها، ويقتل ويشرِّد شعبها، على مدى ما يزيد على سبع سنوات، ويرتكب المجازر غير المسبوقة في التاريخ الحديث، حتى جاءت اللحظة المناسبة، ليُمكنوا بشار الكيماوي وعصابته من السيطرة مرة أخرى على ما تبقى من أشلاء الشام.

وعندما أقول العالم، أقصد القوى العظمى والمؤثرة فيه، أي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وبعض أقطاب الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، والحركة الصهيونية العالمية، المحرِّك الأهم في سياسات الدول سالفة الذكر، فهو نهج ثابت لهم في العالم العربي، بأن تحكم الأقليات الأغلبية، وطبيعة الأقليات تختلف من أقليم إلى آخر في العالم العربي، فممكن أن تكون أقلية طائفية، أو عرقية، أو نخباً عسكرية، أو ائتلاف أسر مع رجال أعمال ومال، المهم عندهم أن الأغلبية في الدول العربية لا تقرر مصيرها أو تشارك فعلياً في إدارة شؤونها.

Ad

غالبية أنظمة الحُكم في العالم العربي، وخاصة المجاورة لإسرائيل، يجب أن تكون أقليات خائفة من الأغلبية التي تحكمها، وتمتلك نفس خصائص الأقلية اليهودية الخائفة والمحصورة في أراضي فلسطين المحتلة، وسط الأغلبية العربية من حولها، لذلك فهم بالنهاية يلتقون في نفس المصالح، وهو ما حدث أخيراً بين تل أبيب ودمشق بشار، حيث أعربت الأولى عن عدم ممانعتها بقاء الأسد في السلطة، وهو ما تلقفه الأخير، ليبدأ حملته على الجنوب السوري المتاخم لإسرائيل.

روسيا التي يبلغ عدد الأقلية الإسلامية فيها ما يقارب 13 في المئة من السكان، لا يوجد منهم شخص واحد في منصب روسي رفيع، بينما موسكو أكدت للمعارضة السورية من اليوم الأول أن الأغلبية السُنية لن تحكم سورية أبداً، فيما السفير الأميركي السابق بدمشق روبرت فورد، الذي عاصر انطلاق الثورة السورية عام 2011، رفض تمكين المعارضة السورية من إسقاط النظام العلوي، وكان يشير إلى حماية الأقلية العلوية، بينما في بلده لم يتمكن غير كاثوليكي واحد فقط من تقلد منصب الرئاسة الأميركية، وهو الرئيس جون كينيدي، منذ استقلال أميركا عام 1776.

ورقة الأقليات هي كرت "الجوكر" الذي يستخدمه اللاعبون الكبار لتمزيق العالم العربي والسيطرة عليه، بينما هم لا يلتفتون لهذه القضايا، أو لا يعيرونها انتباهاً في مواقع أخرى من العالم، أو حتى في بلدانهم نفسها، فمثلاً هم غير معنيين بالأقليتين السُنية والعربية في إيران، ولا إبادة أقلية الروهينغا في ميانمار، ولا مشاكل السكان الأصليين في أستراليا والأميركيتين، لكنهم في منطقتنا لا يرون سلبية في تمكُّن أقلية من السيطرة على لبنان، ويستمرون في دعم الدولة المصادرة من قبل تلك الأقلية المسلحة، ويتكلمون عن حقوق النوبيين والأمازيغ والأكراد... إلخ، بينما يشكلون مجلس حكم ثلاثياً من طوائف مختلفة في البوسنة والهرسك، حتى لا يُمكنوا الأغلبية المسلمة من حُكم بلادها.

الاتفاق الذي نتج أخيراً عن قمة الرئيسين الروسي والأميركي، بوتين – ترامب، خلص إلى تمكين الأقلية العلوية من حُكم سورية مجدداً، بعد أن حققت لهم ما يريدونه من تدمير سورية لمصلحة حليفهم الحقيقي إسرائيل، الذي يزور رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو موسكو كل شهر مرة تقريباً، لتتكرَّس استراتيجيتهم في التحكم في العالم العربي عبر الأقليات، حتى لو كانت في بلدها أغلبية، لكن في محيطها العربي هي أقلية، كما هي الحال في النموذج العراقي، لتستمر لعبة الأمم على شعوبنا وأراضينا، دون أن نكون نحن العرب لاعباً أو طرفاً مؤثراً فيها.