منذ نهاية عام 2008 وحتى بداية عام 2009 وأنا في مكتبي رقم 33 بمبنى المدرسة القبلية التابع للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. وقد شهدت غرفتي هذه ميلاد أكثر من عمل قصصي وروائي والعديد من الأبحاث النقدية والثقافية. وكانت جزءاً أساسياً من مكونات روايتي "في الهُنا".

إن واحداً من أكثر العناصر حضوراً في مكتبي هذا هو الشباك أو النافذة. وكنتُ ولم أزل أنهض من خلف جهاز الكمبيوتر بين فترة وأخرى لأقف أمام النافذة، ومنها أطلّ على أجزاء من منطقة "المباركية"، أحد أقدم الأحياء في الكويت، كما أشاهد قبة المسجد الكبير، الذي عملت فيه مهندساً مدنياً في بداية حياتي العملية، وفي السنوات الأخيرة برز مبنى "بنك الكويت المركزي"، الذي شُيّد على واحد من أقدم وأهم المواقع الأثرية في الكويت "تل بهيته"!

Ad

المكان جزء منك بقدر ما أنتَ جزء منه، وهو بالرغم من صمته يعتاش على أيام عمرك ما دمت كائناً بين جنباته. وإذا صادف وجود مجاميع من البشر، وفي كل مكان من المعمورة، لا تراعي اهتماماً كبيراً لمكان عملها، فإن المبدع، كاتباً كان أو فناناً، يتأثر بمكان عمله، ومؤكد أن عناصر هذا المكان من البشر وحتى الحجر تُلقي بظلالها على روحه وأي نتاج له.

الصديق العزيز د. ساجد العبدلي أرسل إليّ قبل أيام ثلاثة كتب كإهداء كريم منه، ومن بينها كتاب "نوافذ على العالم... خمسون كاتباً وخمسون مشهداً"، تأليف "ماتيو بيريكولي-Matteo Pericoli"، وقد نقله إلى "العربية" سيف سهيل، وصدر عن دار شفق للنشر والتوزيع بطبعته الأولى 2018، والكتاب مشارك في مبادرة "حروف من نور"، التي تعمل على توفير الكتب بصيغة إلكترونية ومطبوعة على طريقة "بريل" لفئة القراء المكفوفين العرب بالمجان.

الكتاب جديد في فكرته وإخراجه، فهو يتناول تأثير النافذة في حياة ونتاج كتّاب من مختلف دول العالم، "وهو كتابٌ فريد في معالجته. إنه تسليط جديد على تجربة الكتابة والرسم كلاً على حدة. وهو ليس بأقل من ذلك، فريد أيضاً داخل العلاقة المقامة بين الكتابة والرسم".

فالقراء حول العالم يقرأون نتاج الكاتب دون معرفة بمكانه الحميم وعالم ما يحيط به. لذا يجد القارئ نفسه أمام المكان الذي كتب فيه كتّابٌ كثرٌ أعمالهم، وما تراه إحساسهم بما يحيط بهم، وأخيراً الدور الكبير والمهم الذي لعبته النافذة في حياة ونتاج كل كاتب.

"سؤال شائع يطرحه الضيوف الفضوليون والصحافيون الزائرون: ألا يشتت انتباهك هذا المنظر الرائع؟ فإن جوابي هو: لا. لكنني أدرك أن جزءاً منّي منشغل دائماً بجزءٍ معيّن من المنظر الطبيعي، متتبعاً حركات النوارس والأشجار والظلال، محدداً مواقع القوارب".

هكذا يصف صاحب جائزة نوبل للآداب الروائي التركي أورهان باموك تأثير مكان كتابته الخفي عليه، فهو وإن كان منشغلاً عمّا خلف نافذته بكتاباته، فإن العالم الحي خلفها هو المصدر الأهم لكتاباته، وهو ما أوصله إلى العالمية.

خمسون كاتباً ينقلون للقارئ أثر نوافذ مكاتبهم وبيوتهم في أنفسهم وانعكاسها على وعيهم ونفسياتهم، وأخيراً على كتاباتهم، وهذا كله يأتي مقترناً برسومات مُتقنة لتلك النوافذ، وكيف أن الإطلالة منها تشكل جزءاً أساسياً من حيواتهم.

إن ضرورة انفصال الكاتب عما يحيط به وسفره بعينيه ووعيه إلى وجوه وبيئات شخوص أعماله هو ما يجعله كائناً في مكانه وغير كائن. فهو موجود بصفته المادية، وهو محلّق في أمكنة أخرى في الماضي، وقد تكون في القادم من الأيام. وفي ذلك تقول الكاتبة الجنوب إفريقية نادين غورديمير: "لا أعتقد أن كاتباً، يكتب في مجال الأدب القصصي، بحاجة إلى غرفة تطلّ على منظر. رؤيته/ رؤيتها: الوسط الاجتماعي، السياق العام، طقس الأفراد الذين ينفخُ فيهم الكاتبُ الروح. إن ما يلاقونه من تجارب حولهم، ما يرونه، إنما هو ما يلاقيه الكاتب، يراه، ويعيشه". (ص47)