في عام ١٩٨٠، نقلني القدر فجأة من غبار الجهراء وظهيرتها وطبائعها البدوية والقروية إلى باريس، في أكبر صدمة يمكن أن يتعرض لها شاب في العشرين من العمر أو أقل.

لم يسبق لي الخروج من البلد قبل ذلك، ولم أتجاوز حدوده، وكان عليَّ أن أتعايش مع كل هذا السحر كحلم طويل مدته سنة، على ألا أنسى تفاصيله. ومن تلك التفاصيل، أن شابا من أصول إفريقية ممشوق القوام أنيق الهندام تتأبط ذراعه فتاة فرنسية شقراء لا تقل عنه أناقة في ملبسها يتجولان على جسر نهر السين. لم يكن المنظر مقبولا بالنسبة لي حينها، فأنا نتاج بيئة عنصرية، لكنه مشهد لا يعنيني في بلد لا يهمني. ما لفت نظري، أن المشهد لم يعجب هؤلاء المارة البيض الذين كانوا يطلقون كلمات استهجان بذيئة تجاه الفتاة وصاحبها.

Ad

تغيرت الحال بالتأكيد، وأصبح العالم أكثر انفتاحا تجاه الآخر، دون أن يدعي أحد أن الوضع وصل إلى الكمال في التعامل مع الآخر المختلف. في السابق كان وجود لاعب أسود أو عربي في الفريق القومي الأوروبي يعتبر حالة شاذة ونادرة. لكن ما نشاهده اليوم أن فرقا مثل إنكلترا وفرنسا يمثل فيها العنصر الأبيض أقلية، مقارنة باللاعبين المهاجرين. ويمثل اللاعبون العرب بلدانا أجنبية هاجر آباؤهم إليها تحت ضغط الحاجة والنكران. هذه الحالة هي انعكاس لطبيعة الحياة الاجتماعية في هذه المجتمعات، ومحاولاتها الجادة في نبذ النفس العنصري، واحتواء الآخر كعنصر فاعل في المجتمع له حقوقه وعليه واجباته كأي مواطن، بغض النظر عن لونه.

تمثل الهجرة بالنسبة لهذه المجتمعات، والتي تنخفض فيها معدلات المواليد، موارد بشرية مهمة في البناء وإصلاح الأراضي والوصول للاكتفاء من العمالة المدربة. يحدث ذلك بناء على خطة تعلن عنها الدولة بعد دراسة احتياجها من هذه الموارد البشرية، وخضوعها في الغالب لمقابلات خاصة تتعلق بالتعليم والتدريب. أبناء هؤلاء المهاجرين هم مواطنون ولاؤهم لهذه البلاد التي نشأوا فيها وتعلموا في مدارسها وتفاعلوا مع نظامها وقوانينها، ومن هؤلاء اللاعبين الذين يمثلون بلدانهم ويرددون سلامها الوطني ولن يخذلوها وإن لعبوا ضد بلدان آبائهم الأصلية.

ما يردده العرب عن وجود لاعبين من البلدان العربية في الفرق الأجنبية لا يعني شيئا لهؤلاء اللاعبين، ولا يكترثون لهذا التفاخر أو يلتفتون إليه. بلادنا العربية الأكثر حاجة لهذه الموارد البشرية وهذه الطاقات، سواء في كرة القدم أو في المختبرات والمعامل الأجنبية. بلادنا العربية تعتبر بلدانا طاردة لأبنائها وطاقاتهم الإبداعية، فهي مازالت تنظر بعنصرية بغيضة لأبناء جلدتها التي تعمل معها وتضن على أجيال من أبنائها المتفوقين في فرص تعليم ولا تعترف بهم، وحين تراهم مبدعين بعيدا عنها تتذكر أنهم كانوا منها. ما يحلم به المواطن العربي هو تأشيرة خروج أبدية من بلده الأم، ليس لبلد عربي آخر يمنحه فرصة يستحقها، إنما لبلد أجنبي يحتويه ويحترم بشريته.

هؤلاء الذين تفاخرون بهم ليسوا أبناءكم، إنما أبناء من اعتنى بهم ومنحهم فرصهم لتتعرفوا إليهم فقط.

ملاحظة:

المهاجر السيلاني مايكل أونداتجي هو مواطن كندي فازت روايته (المريض الإنكليزي) بالبوكر الذهبية بمناسبة مرور خمسة عقود على تأسيس الجائزة. بالتأكيد ستفتخر به كندا، وليس بلاده التي هاجر منها، وما ينطبق عليه ينطبق على الكثير من الكفاءات الأخرى في شتى المجالات.