شعرت النخبة المتعلمة والإصلاحية في الكويت مع بداية القرن العشرين وتزايد تأثير التجارب الإصلاحية العربية، أنها بحاجة ملحة إلى مؤسسات ثقافية ومقار تستطيع من خلالها أن تخاطب الجمهور، وتناقش مختلف الأفكار والمستجدات، مما جعلها تنشط في مجال تأسيس الأندية والجمعيات والمكتبات.

يقول عبدالله الحاتم عن ظهور "النادي الأدبي عام 1924" والذي خصه د. عايد الجريد في كتابه الذي نعرضه للقراء:

Ad

"عندما تأسست المكتبة الأهلية عام 1922م رأى بعض الشباب المتنور أن هذه المكتبة لا تقوى وحدها على النهوض بهذا البلد فكريا، ما لم يكن هناك ناد يدعمها، وتلقى على منبره المحاضرات الأدبية والأخلاقية، وتعالج بين جنباته المشاكل الاجتماعية.

فالمكتبة أوجدت للمطالعة والبحث، أما النادي فيختلف عنها كونه واسطة للتعارف وتبادل الآراء والأفكار الأدبية والعلمية، وهنا تأسس (النادي الأدبي) وقيل إن أول من فكر في تأسيسه وضرورة وجوده، هو الشاب الأديب: السيد خالد بن سلمان العدساني، وانتخب الشيخ عبدالله الجابر رئيسا له.

وفي يوم 24 رمضان سنة 1342هـ (30/ 4/ 1924م) أقيمت حفلة شائقة بمناسبة افتتاحه ألقيت فيها الخطب والقصائد، وألقيت فيه محاضرة، هي أول محاضرة ألقيت في الكويت".

(من هنا بدأت الكويت، ص68).

ويذكر الباحث د. الحربي أن مجلة "لغة العرب" العراقية اهتمت بتأسيس ناد أدبي في الكويت قبل افتتاحه بسنوات، فقالت في عدد سبتمبر 1912 "إن شباب الكويت يعدون ناديا أدبيا بجهود فرحان الخضير"، ويشير د. الجريد إلى ما يؤكده أمين صندوق النادي محمد أحمد الغانم من أن فكرة تأسيس النادي، "كانت نابعة من الشباب الذين شعروا أن إيجاد مقر لهم أمر ضروري"، ويضيف الغانم "وأذكر أن الشيخ أحمد الجابر قد وقف معنا وساندنا حتى أنه كان، رحمه الله، يبعث لنا بالصحف العربية التي تأتي له".

(رجال في تاريخ الكويت، يوسف الشهاب، ج1، 1984، ص405).

وكان المؤرخ الرشيد بدوره من المتحمسين لتأسيس مثل هذا النادي، فنراه في "المحاورة الإصلاحية" يقول: "إن هذه الاحتفالات العلمية والاجتماعات الأدبية معرض من معارض الآراء، وسوق من أسواق الأفكار"، فلربما كان المؤرخ الرشيد أول من تحدث عن "تسويق الأفكار"، العبارة التي لم تكن دارجة في عصره!

وقال الرشيد في مقال بمجلة الكويت، التي كان يكتبها ويطبعها ويوزعها ويتولى الدعاية لها، "إن تأسيس الأندية من مناهج الإصلاح في هذا العصر، أعني الأندية التي تُعنى بنشر العلم والأدب، وتهتم بحماية الدين والأخلاق من أعدائه، وتضم في ساحاتها المفكرين من أبناء الوطن". وكانت هذه الإشارة من الرشيد دفاعا عن الأندية التي كان المحافظون والمتزمتون لا يكفّون عن مهاجمتها والطعن في أهدافها.

ويقول د. الجريد إن المؤرخ الرشيد كان يرى أن البلاد لا ترقى إلى العلا ولا تتقدم إلا بتعدد المشاريع النافعة فيها من مدرسة علمية إلى ناد أدبي أخلاقي إلى مكتبة تضم في جدرانها الكتب المفيدة".

(عن مجلة الكويت، ج8- 9- 1930).

ويثير الحديث عن النادي الأدبي الإشارة، والإشادة بإحدى شخصيات الكويت التعليمية والثقافية المخضرمة التي أدت دورا تأسيسياً ورعويا بارزا غير مدروس بما يليق بجهده للأسف حتى الآن، وهو الشيخ الراحل عبدالله الجابر الصباح. فقد كان هذا الرجل من مؤسسي النادي الأدبي في الكويت عام 1924، وأصبح لاحقا رئيسا لمجلس المعارف ولدائرة المعارف عام 1936، وبذل الكثير من الجهود في تشجيع التعليم وإنشاء المدارس، واجتذاب الطلاب والطالبات إلى المدارس النظامية مبتدئا بأولاده وبناته، وكان الشيخ عبدالله الجابر فيما بعد ومع الاستقلال، أول وزير للتربية والتعليم 1962- 1964، ورئيس اللجنة التي عهدت إليها دراسة الإعداد لافتتاح جامعة الكويت التي بدأت في العام الدراسي 1966- 1967.

ولحسن الحظ جرى توثيق الكثير من جوانب حياة الشيخ عبدالله الجابر الرسمية وزياراته والمسؤوليات التي تولاها، وأجرت معه الصحافة والتلفزيون المقابلات، كما صدرت عن حياته ودوره بعض الكتب الموثقة وأبرزها كتاب بعنوان "الشيخ عبدالله الجابر الصباح 1898- 1996" للشيخة منى عبدالله الجابر الصباح، ولا إشارة إلى تاريخ الطباعة، وكتاب ثان بعنوان "الشيخ عبدالله الجابر الصباح سيرة عطرة وتاريخ تربوي حافل"، للأستاذة الدكتورة "فوزية يوسف العبدالغفور"، الكويت 2007.

ولا أدري إن كان الشيخ عبدالله الجابر قد أملى شيئا أو ترك شيئا مدونا عن دوره ومسؤولياته وحياته الحافلة التي امتدت نحو قرن، وإن لم يكن قد وثّق ذلك فقد خسر تاريخ التعليم والثقافة الكثير من المعلومات المهمة.

ومن الأدوار البارزة التي تولاها الشيخ عبدالله الجابر تشجيع البعثات التدريسية من فلسطين ومصر والعراق وتذليل مشاكل المناهج والحياة الاجتماعية للمدرسين والمدرسات الجدد، فقد شهدت الكويت ما بين 1936 و1940 أربع بعثات تعليمية فلسطينية.

ويقول الشيخ في مقابلة أجرتها د. فوزية العبدالغفور معه عام 1973 عن بداية هذه البعثات بعد أن أرسل الشيخ بصفته رئيس مجلس المعارف عام 1936 رسالة إلى مفتي الديار الفلسطينية الشيخ أمين الحسيني يطلب فيها منه اختيار معلمين من فلسطين لتولي مهام التدريس والتعليم في الكويت، حول هذا الموضوع، تقول د. العبدالغفور، يذكر الشيخ عبدالله الجابر في المقابلة: "تسلمت الرد السريع من الحاج أمين الحسيني يطلب مني توفير التأشيرات المطلوبة لدخول المدرسين الفلسطينيين الجدد، ويؤكد الشيخ عبدالله الجابر أنه على الرغم من الصعوبات التي واجهناها أمام الحصول على هذه التأشيرات فإن الدافع القوي لأهمية الموضوع والمتابعة المستمرة له مكنتنا من تحقيق الغاية، ووصلت أول بعثة تعليمية من فلسطين في 25 شعبان 1355هـ الموافق 9 نوفمبر 1936م مكونة من أربعة مدرسين هم:

- أحمد حسن شهاب الدين، جابر حسن حديد، محمد أحمد المغربي، خميس محيي الدين نجم". (ص82).

وتضيف د. فوزية: "وقد وصلت هذه البعثة عن طريق البر، وقد استقبلهم الكويتيون وأعضاء مجلس المعارف استقبالا حارا عند منطقة الجهراء".

كان تعليم الفتيات من التوجهات التي شجعها الشيخ عبدالله الجابر كما ذكرنا، وقد أحضر الأستاذ أحمد شهاب الدين معه من فلسطين معلمتين فلسطينيتين هما "رفعة عودة" وأختها "وصيفة عودة"، وحضر معهما شقيقهما "عودة" كمحرم للتدريس في أول مدرسة ابتدائية للبنات افتتحت في 1937- 1938م باسم مدرسة البنات الوسطى بلغ عدد الدارسات فيها نحو 140 تلميذة.

وتقول د. فوزية عبدالغفور إن افتتاح أول مدرسة للبنات "تم بعد الانتهاء من التحديات والصعوبات التي واجهت "دائرة المعارف"- أي ما يقوم مقام وزارة التربية- من معارضة المشايخ ورجال الدين في المساجد".

ويذكر الشيخ عبدالله الجابر في المقابلة مع د. العبدالغفور أن مدرسة البنات فتحت أبوابها للبنات "ومضت فترة لم تتقدم أية طالبة للتسجيل فيها، وذلك نتيجة الحملة العشوائية التي شنها أئمة المساجد وتحذيرهم بعدم إرسال بناتهم إلى المدرسة، لأن تعليم البنت في نظرهم يؤدي إلى الانحلال والفسق".

وتساءل الشيخ عبدالله الجابر عن سبب عدم اعتراض المشايخ على دراسة البنات لدى الكتاتيب والمطوعات، ومن البنات من كن يجدن القراءة والكتابة، وقال السبب في ذلك بأن البنت حينما تذهب إلى مدرسة المعارف عليها أن تخلع العباءة والبوشية عن وجهها- البوشية نوع من غطاء الوجه- وتجلس في الفصل مكشوفة الوجه وبدون "بُخنق"- رداء من القماش الأسود ترتديه الفتاة- وربما العباءة".

بل شرح الشيخ عبدالله الجابر أسباب الحملة على تعليم الفتيات بجرأة فكرية واجتماعية ملحوظة فقال: "ربما يكون السبب أيضا أن الرجال رفضوا أن تشاركهم البنت في التعليم، وهذا- أي التعليم- يؤدي إلى زيادة وعيها وإدراكها للأمور وإلى تحررها وربما ثورتها على الأوضاع التي كانت تعيشها في ذلك الوقت، حيث كانت محرومة من أبسط حقوقها، ولم يكن لها أي تقدير أو اهتمام من والدها أو إخوتها".

وإلى جانب استعانة الشيخ ببعض رجالات الكويت كالسادة يوسف الغانم ونصف اليوسف وعبدالحميد الصانغ وخالد الزيد ومحمد عقيل، حيث نجح في إقناع هؤلاء الأشخاص بتسجيل بناتهم في المدرسة، عمد الشيخ إلى خطوة أكثر جرأة وابتكارا لإقناع المجتمع الكويتي بتعليم البنات وإضعاف المعارضة، فعمد "إلى استقدام وفد نسائي عراقي يتألف من عشر سيدات مهمتهن نشر العلم والوعي والثقافة بين النساء الكويتيات".

ويقول الشيخ: "أنزلت هذا الوفد على نفقتي الخاصة، ووضعت أمامه كل الإمكانات البسيطة والمتوافرة لي لإنجاح مهمته، وكان هذا الوفد يقوم بزيارات ميدانية إلى العائلات لإقناعها بضرورة تعليم بناتها".

ويضيف الشيخ عبدالله الجابر: "وقد تعرضت خلالها لحملة انتقادات شديدة ومعارضة قوية من قبل رجال الدين وبعض الشخصيات ذات النفوذ القوي، واتهمت بأنني أريد إفساد الجيل الجديد بتعليمه وتثقيفه، ومع ذلك استمررت في موقفي".

وتقول د. العبدالغفور: "كان الشيخ من أوائل من سجل بناته في "المدرسة الوسطى" الشيخة غنيمة والشيخة سبيكة، فكان القدوة المثلى لتشجيع أولياء أمور البنات، وحث الكويتيين على إدخال بناتهم المدارس النظامية".

(الشيخ عبدالله الجابر- ص 96). يتبع.