حين يُوصف الكسب بطعم العسل، فليس أقل من الصبر والمر مذاقاً للخسارة. الكسب والخسارة هما وجها عملة الحياة. فلا معنى لخسارة لمن لم يجرب كسباً. ولا معنى لسقوط الخسران دون ارتقاء درجات الكسب الصعبة.

وإذا كان الطفل يُولد بغريزة الأخذ، وما يصاحبها من متعة تدغدغ الروح، فإن تالي الأيام سيُعلمه أن هناك مبلغاً لكل أخذ، وأن هذا المبلغ يرتبط بقيمة الشيء المأخوذ، فمنْ يأخذ رخيصاً قد لا يدفع شيئاً، ومنْ توسوس له نفسه بنيل الغالي، عليه أن يعدّ العدة لدفع الثمن الباهظ. وهو قانون الحياة؛ لكل مغامرة حياةٍ مجازفة تساويها، فمن يصيب ثمر المغامرة يطفح قلبه بفرحه، ومن يخيب ينكسر ويتحطم بحزنه.

Ad

الكسب والخسارة، هما جانبا طريق العمر الذي نمشي، ووحدهما يعطيان لحظة الحياة معناها الأهم والأسمى. فمن أراد لنفسه أن يعيش سالماً بعيداً عن مغامرة تلوّن لحظة عيشه، عليه أن يصادق ويرضى بطين اللحظة العابرة. وعليه أن يركن للروتين نفسه، الذي يجعل من يومه خطاً مستقيماً دون أي تعرجات ولا لوعة ولا أمل.

هناك من يعتقد أن طبيعة حياته الذي وجد نفسه فيها ممتلئة وسعيدة وكافية بمن حوله، حتى يجرب مغامرة مختلفة فتغيّره وتتركه معلقاً على حبل الشك يتفكر بقناعاته وبيئة عيشه. وكيف أن تلك المغامرة أخذته إلى ضفاف وشطآن لم يكن يتصورها ويعرف ألوانها. وفي المقابل هناك من يجعل من مغامرة خوض لحظة جديدة بمذاق مختلف رهاناً لعمره، ومهما كانت تكلفة هذا الرهان، حتى لو وصلت إلى دفع عمره ثمناً لها!

النجاح والسقوط، الكسب والخسارة، الهدوء والعاصفة، اليقين والشك، كلها صفات قد تتقارب في معنى الأخذ والعطاء، حتى كأنها تقول الأمر نفسه. لذا من المهم لسلوك درب الحياة، أن نوطد عمرنا على كلا الأمرين، وأكثر من ذلك أن نغرس ما أمكننا في أنفسنا ولاحقاً في سلوك أبنائنا أن للعطاء متعة تختلف تماماً عن متعة الأخذ! وأن المحظوظين فقط أولئك الذين يقدمون متعة العطاء على متعة الأخذ. وأكثر حظاً منهم أولئك الذين يعتادون على العطاء حتى يصبح صفة ملازمة لرتم حياتهم.

لكن قلة القلة، ومحظوظي المحظوظين أولئك الذين يصبح العطاء هو متعتهم الأهم في الحياة، وحينها ينذرون أنفسهم للعطاء دون حساب أو مقابل. وتصبح مشاوير حياتهم ذهاباً إلى مغامرة العطاء التي ليس لها من مخاطرة سوى سعادة راجفة تهز جنبات الروح وتسكنها وتلوّن عيشها.

ما يجب الانتباه إليه إلى أن عمر متعة الأخذ عادة ما يكون أقصر بكثير من عمر متعة العطاء. وأن متعة الأخذ عادة ما تكون شخصية، بينما متعة العطاء قد تتعدى شخصاً واحداً إلى أكثر وأكثر ومئات وألوف!

الكسب والخسارة شأنا لحظة الحياة العابرة، وفي كل ما نعيش. لذا نرى أمامنا نماذج بشرية متعددة: فهناك منْ يقاتل ويصرّ على الأخذ دون استعداد للعطاء، وآخر يقاتل لأخذ ونيل ما لا يستحق، وثالث اعتاد الأخذ دون عطاء، ورابع يقنع بأخذ ما يُعطى إليه، وخامس لا يأخذ إلا ما يستحق، وسادس يخالف من حوله ويرفض الأخذ مفضلا العطاء، وآخر وآخر وآخر، يتعدد ويتلون البشر تبعاً لما جُبِلوا عليه من طباع الأخذ والعطاء.

كلُ أخذٍ زائلٍ إلا ما استوطن عقل الإنسان وقلبه. وكل عطاء ذاهب متلاش إلا عطاء الخير والفكر. لذا مما يبقى للإنسان بعد موته "صدقة جارية أو علم يُنتفع به"، وكلاهما عطاء يبقى عابراً للأجيال، ويبقى حاملا أثره الطيب في حياة أناس قد لا يعرفهم صاحبه، وهذه ربما أجمل أشكال العطاء، أن تعطي خيرا لمن لا تعرف!