العنوان Ars Poetica لاتيني يعني "فن الشعر"، شاع بعد عنوان نص للشاعر الروماني هوراس (8 - 65 ق.م). كتبه آنذاك نصائح للشعراء الشباب، ترشدهم إلى سبل كتابة القصيدة الناجحة، التي تتمتع بخصيصتين: الإيجاز والديمومة.

شيوع العنوان تكاثف في عدد من القصائد في عصرنا الحديث، تتجاوز 53 قصيدة، (وفق موقع PoemHunter.com). ولم يكن الأمر مجرد صدى لشيوع "النقد" من قبل نقاد الشعر، بل صدى لرغبة الشعراء أنفسهم في معالجة "فن الشعر" شعرياً، كما يرونه هم في طوايا أنفسهم، وفي طوايا القصيدة التي يكتبون.

Ad

ولا شك أن قصيدتهم بهذا الشأن لن تُقبل على قارئها بأسلوب "تعليمي"، كما أقبلت كتابة هوراس قبل ألفي عام. بل تقبل إيحائية، مع حسية صلبة في مادتها، مسترشدة برؤيتها النقدية التي انطوت عليها.

فاعلية كتابة القصيدة كانت تشغلني منذ مطلع الشباب حتى اليوم، وقد عرضت لذلك في الكثير من نصوصي النقدية، ونصوصي الشعرية. وصرت بين الحين والحين ألاحق القصائد التي تشغلها هذه الفاعلية بالترجمة والتأمل. قصائد ترصد عملية ولادة القصيدة، وقصائد ترصد "فن كتابة القصيدة". ومن القصائد التي أحببت في حقل "فن الشعر" اثنتان لشاعرين كبيرين: البولندي ميووش والأميركي ماكليش؛ الأولى نشرتها مع مختارات من شعر الشاعر في مجلة "اللحظة الشعرية" في التسعينيات، والثانية أقدمها للقارئ الآن.

قصيدة "آرشيبالد ماكليش" (1892 - 1982) معروفة، كتبها الشاعر في مرحلة تأثره بالمدرسة "التصويرية"، التي وضع أسسها الشاعر إزرا ﭘاوند. لذا سيرى القارئ اعتمادها الصورة الحسية، لكن لتتجاوزها إلى ما هو غير حسي. كما تعتمد "اللازمنية" في جوهر النص، كمعيار للشعر الجيد. ألا تكون مرآة مرحلة تنتهي بانتهاء أحداثها. وهذان العنصران وردا في كتاب هوراس (Ars Poetica).

قصيدتُه معالجة تربط بين ما هو كلاسيكي بما هو حديث، وضعها الشاعر في ثلاثة مقاطع، ولكل مقطع ثمانية أبيات. كل مقطع يوضح ما ينبغي أن تكون عليه القصيدة. المقطع الأول يقارن القصيدة بمشاهد بصرية مألوفة: فاكهة، ميداليات قديمة، عتبة حجرية لنافذة، ورحلة طيور. المقطع الثاني يقارن القصيدة بالقمر. فإذا كانت القصيدة تتسع لمعان كلية، فهي تنتقل من لحظة إلى أخرى، أو من زمن لآخر، وتظل أهميتها ثابتة (ساكنة).

وكالقمر الذي يسافر عبر السماء تبدو القصيدة ثابتة في كل لحظة من لحظاتها، ومحتواها يظل يحافظ على طراوته عبر العصور. في المقطع الثالث يؤكد الشاعر أن القصيدة يجب "أن تكون"، لا أن تعتمد على ما تعنيه فقط، أن تحقق كينونة، شأنها شأن اللوحة أو المنحوتة.

وتَتابعُ الصور في مطلع القصيدة إنما يشي بديمومة الشعر عبر الزمان: "ثمرة مكتنزة"، "مداليات قديمة" و"حواف حجرية بالية حيث ينمو الطحلب". ثم إن تتابع المفارقات، بحيث توصف القصيدة بـ"الخرس" و"الصمت" و"السكون" مع استحالة ذلك، وإلا انعدم تواصلها مع قارئها، إنما هي توكيد أن مادة الشعر قد تبدو فيزيائية، إلا أن معناه ميتافيزيقي: القصيدة ليست حول عالم الأشياء المحسوسة فقط، بقدر ما هو حول الحقائق غير المرئية وراءها. ولعل البيت الأخير "ليس على القصيدة أن تعني بل أن تكون"، الذي دخل مصطلحات النقاد، إنما يعتبر مفارقة، لكن ذات دلالة: لأن معنى أي قصيدة إنما يشير إلى شيء "دائم" وجوهر لحقيقة روحية يتخفى وراء الظاهر:

ينبغي للقصيدة أن تكون ملموسة ومكتومة الصوت،/ مثل ثمرة مكتنزة،

بكماء/ مثل مداليات قديمة،/ صامتة/ مثل عتبات نوافذ بالية حيث ينمو الطحلب...

ينبغي للقصيدة أن تكون صامتة/ مثل تحليق الطيور.

**

ينبغي للقصيدة أن تكون ساكنة داخل الزمن،/ كالقمر وهو يتعالى،

تاركة، كما يحرر القمر/ أشجار الليل المتشابكة غصناً إثر آخر،

العقل ذكرى إثر أخرى.

ينبغي أن تكون القصيدة ساكنة داخل الزمن/ كالقمر وهو يتعالى،

*

ينبغي للقصيدة أن تكون كفؤا لعبارة:/ ما من حقيقة

ولكل تاريخ الأحزان أن تكون مدخلا سالكا وورقة من شجر القيقب

وللحب عشباً ليناً/ وفنارين على البحر.

ليس على القصيدة أن تعني/ بل أن تكون.