ظل الزعيمان الكرديان جلال طالباني ومسعود برزاني يحلمان بتحقيق الأهداف القومية من خلال الدستور والقوانين، وبناء دولة عراقية اتحادية ديمقراطية في منطقة غير ديمقراطية، تعج بالأنظمة الدكتاتورية، وضحيا بإقليمهما المستقل إداريا عن بغداد في سبيل هذا الغرض، وأبديا ثقة واسعة وحسن نية بالأحزاب الشيعية «المتحالفة!» التي سعت إلى إعداد القوة وتهيئة أسبابها خلافا للتوجهات الكردية السلمية.

يبدو أن أبرز سياسيين كرديين لم يقرآ واقع المنطقة على حقيقته المُرة القائمة على القوة، فضيعا على الأمة الكردية سنوات طويلة من عمرها في الجري وراء سراب الديمقراطية ووعود الشيعة المتحالفين الذين فهموا اللعبة جيدا، وأدركوا أن القوة وحدها هي التي تحكم وتدير دفة السياسة في المنطقة، فهيمنوا على مفاصل الدولة وأحاطوا أنفسهم بقوات أمن رادعة وميليشيات عقائدية قوية جاهزة لأي حالة طارئة.

Ad

ولم يدرك هذه الحقيقة غير مسعود برزاني متأخرا، عندما غاب طالباني عن المشهد السياسي بسبب مرضه ومن ثم موته، وإدراكه أن الحرب مع القوات الشيعية آتية لا محالة، ولن يحول بينها وبين اندلاعها أي عائق، هكذا فهم برزاني من التصريحات النارية اليومية التي كان يطلقها السياسيون وزعماء الميليشيات الشيعية ضده وضد الكرد وتهديداتهم المستمرة بشن حرب إبادة شاملة على الكرد، كما فعل زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، واتبعه الشيخ جلال الدين الصغير القيادي في المجلس الأعلى الإسلامي وإمام وخطيب جامع «براثا» الشيعي الشهير الذي هدد الكرد في العراق بالإمام المهدي، حيث وصفهم بالمارقة، وقال «إن الكرد هم المارقة المذكورون في كتب الملاحم والفتن الذين سينتقم منهم الإمام المهدي حال ظهوره». وأعقب قائلا «إن أول حرب سيخوضها المهدي ستكون مع الأكراد، وإنه لن يقاتل أكراد سورية أو أكراد إيران وتركيا بل سيقاتل أكراد العراق حصراً». وكانت هذه التهديدات الشديدة كافية لبث الذعر في قلوب الأكراد ليبحثوا عن حل جذري للتخلص من الكابوس العراقي!

وقد أيقن برزاني تماما أنهم بصدد هجوم كاسح على إقليم كردستان من قبل الشيعة وأنهم مصممون على خوضه بعد أن يصفو لهم الجو وينتهوا من تنظيم «داعش» في آخر معاقله في مدينة الموصل بأي ثمن، وقد شعر بتلك المخاوف وأعلنها مرارا وفي مناسبات عديدة، ونقل هذه المخاوف الى عواصم الدول الغربية والعربية والأمم المتحدة وحذرها من خطر ماحق يطول شعبه عن قريب، ولكنها لم تحرك ساكنا، وبعد أن فشلت كل الجهود الخارجية والداخلية لثني رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عن عدوانه المبيت ضد الإقليم، وإنهاء الحصار الجائر الذي دام أربع سنوات عجاف، قرر اللجوء أخيرا إلى قوة «الجماهير» وإجراء الاستفتاء للانفصال نهائيا عن العراق قبل استفحال الأمر ووصوله إلى مواجهة مسلحة شاملة وحرب قومية عربية كردية لا تبقي ولا تذر، ولوضع حد للعلاقة المتدهورة الدائمة بين بغداد وأربيل وبدء علاقة جديدة قائمة على الجيرة الطيبة والأخوة الإسلامية ووضع نهاية للصراع التاريخي الطويل الدامي بين الشعبين والامتين! ولكن يبدو أن المجتمع الدولي مصرّ على إبقاء العراق والمنطقة على حافة النار، ويظل الكرد دائما ورقة جاهزة بيده لاستعماله متى شاء ضد من يشاء!

* كاتب عراقي