تتخطى الكاتبة ميس العثمان حاجز الخوف من الأسرة أو المجتمع، الذي سيعيب عليها كتابة سيرتها الأربعينية، فالكاتب ربما يصاب بهاجس الخوف والنقد، لأنه سيسبر غور حياة تشمل ذات المجتمع والعائلة، مما يؤدي إلى تداعيات لا تحمد عقباها.

ميس كما معنى اسمها، ظلت شجرة قوية صلبة لم تسمح لأحد أو لعوادي الزمن أن تنخر في ساق شجرتها، وتعمل منه معولاً كي يفتت همتها/ قوتها، بل ظلت منذ نعومة أظفارها صلدة لا يخامرها الشك بما تؤمن، بل تجاوزت كل أقرانها بالسؤال عن الغيبيات ومقارنتها بما هو طبيعي. لقد أتعبت أمها بالأسئلة، ثم انتقلت إلى والدها الذي طاوعها ورسم لها الخطوط العريضة، لما هو قادم من الحياة، أما معلمة الإسلامية فكانت لها حكاية أخرى، وعدم ردها على أسئلتها شجعها ووثقت أنها على حق، واستمر هذا الحق المكتسب ليشمل جميع مناحي حياتها، وجعلها العلامة البارزة في مجتمعها العائلي، صارت صاحبة الكلمة العليا لإدلاء الشهادة حينما يحتكم أطراف العائلة لحل نزاعات أبنائهم.

Ad

الرفض والاحتجاج

تتعاقب الأيام وعودها يصبح أكثر شدة وتماسكاً، ويبدأ القلم بلونه الأزرق ليرسم صوراً لمواقف ترتقي إلى مستوى الطموح، فهي التي قادت حملات الرفض والاحتجاج بالمدرسة، ها هي تعود لتقود مظاهرات الرفض وعدم الاستكانة للحجز على القلم/ العقل. بما أن ميس اعتقدت أن التعليم لا يغطي من الحقيقة سوى ٢٪ فقط فجهزت حالها/ زملاءها ليكملوا هذا النقص والتوجه للكتابة الملتزمة وبنيان حقيقة موقف المثقف تجاه مجتمعه/ بلده، فنادوا باعتماد العقل، لأن المسلمات المتوافرة ناقصة لا بل تؤدي إلى العودة إلى الوراء.

الدروس الأولى

فالكاتبة اليوم استلهمت دروسها الأولى من جدتها لأمها (بدرية) ووضعتها بميزان مع ما جبلت عليه، والتقاطها لخيط الصراع الطبقي ورؤية المجتمع وتحولاته كان له الأثر الكبير في مسيرة حياتها. وها هي تمارس طقوسها الدينية منفردة، لأنها رغبت أن تكون علاقتها بخالقها مباشرة، فالكاتبة تصالحت مع نفسها أولاً، ولم تجد صعوبة بالتصالح مع بارئها، فقد أثقلت النصائح والإرشادات حياة مجتمعها، فنفرت وابتعدت كي ترقب ماذا يحصل فهي تقول (لم أترك الطقس الديني رغبة بالانفلات، بل بالبحث عن شيء جديد قابل للفهم، شيء خارج عن دائرة التلقين).

تبتكر الكاتبة عدة وسائل لتفلت من القيد الاجتماعي/ العائلي، كي تجد نفسها متحررة من الحضور الإرضائي والخالي من جملة مفيدة.

إن "صندوق الأربعين"، الذي اعتبرته قفزة حرة في السرد، هو البوح الجميل، الذي أضفى على ميس العثمان صدقاً إضافة إلى صدقها في موقفها، بل أعطى إشارة أن الآتي من الكتابة/ الحكاية سيكون أكثر سهولة وتقبلاً، لأن القارئ عرف أن ميس لم يعد لديها ما تخفيه، فكتابتها صافية من شوائب الخوف/ الخنوع، بل رمزاً للتحرر، وتوقاً لحرية مجتمع.

علامة بارزة

الأربعون وصندوقها. أعتقد أنها بداية لنضج جديد أكثر وضوحاً، لاسيما أن كفها الصغير السخي في الحياة/ الكتابة أصبح كفاً ترجح كفته ومضاهياً لأكف الكبار، علماً بأنني لم ألحظ صغر كف الكاتبة، فحديثها ونتاجها لا يشعرانك بأن لها كفاً صغيراً، أما علامتها البارزة الأخرى، وهو ثقب الأذن، والذي لم أره يوماً، ربما كان ممراً لتزويد العقل بتجارب الحياة.

الثقافة والفعل الإبداعي

تقول الروائية ميس العثمان في نص الغلاف الخلفي لكتاب "صندوق الأربعين": الثقافة ليست أمنية! الثقافة والفعل الإبداعي حروب نخوضها بأقل ما يمكن من الجروح والإصابات في الأرواح/ الأبدان، فإن تكتب بصدق/ بمبدأ/ بجدية/ باحتراف واستمرار تلك حرب شرسة ومكلفة، يعني أن تستعد دائما للخسارات، ولأن يبرز عرق ينبض كل الوقت في منتصف جبينك، وأن تمرن صوتك طويلا لقول الحق بينما قلبك دافئ باليقين، وجيوبك خالية من الفائدة، وسجلك الإنساني (الأخلاقي) بياضه أصيل، وأن تَعرف إلى أين تَمضي بين كل هذه الوَساخات المحيطة والتحولات المقيتة وأنت لاتزال مبتسماً، بينما تتمتم: سبحان مغيّر الأحوال.

وقد يساورك شكّ كثير حتى في تمتمتك.

أن تنتبه... أن تستحيل مخلوقاً من انتباه.

لا تغفل عن خيانات المبادئ، تحالفات ما تحت وأعلى الطاولات، المرايا التي لا تعكس لنا إلا الجزء الظاهر منها، الولاءات التي تُشترى بـ"رنين النقود"، وأنت؟ تكتفي بيقينك، تعيد في كل مرة/ صدمة/ خبر، ترتيب التفاصيل الناشئة للتو، تنظر جيداً وعميقاً لآخر الجدران المتهالكة، بينما عيناك شهود حدث مؤسف. تعيد التمتمة: ضاع فرد جديد، اشتروك يا صديق... وداعا. تضحك من أنفك بقلب بارد، لقد ضاع قبله كثيرون وانتهى، لقد اختار.