هبت رياح عاتية على منطقة الخليج على امتداد العقدين الأخيرين، وعصفت بعادات وتقاليد ومواريث اجتماعية ترسخت عبر قرون، وأضفت عليها الاجتهادات الفقهية، صبغة شرعية، حتى ظن الناس أنها من الثوابت الدينية، وما هي كذلك، تهب هذه الرياح لتحدث تغييرات سريعة: سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وفكرية.

الخليج اليوم غير خليج الماضي قبل سبعين عاماً، لم يعد الشيخ الفقيه أو القاضي الشرعي هو المرجع العام أو الحكم الفصل للمجتمع في الشؤون الدينية والاجتماعية، وبخاصة الأمور الاجتماعية المتعلقة بالمرأة: حقوقها المدنية والسياسية، تعليمها، عملها، توليها الوظائف القيادية، اختلاطها، سفرها، حريتها الشخصية، الولاية عليها، إرادتها الحرة.

Ad

أصبحت للمرأة الخليجية شخصيتها المستقلة في كل تعاملاتها المدنية، وحرية حركتها المجتمعية، وسقط آخر القلاع الاجتماعية المناهضة لحركة المرأة الخليجية في منطقة الخليج، اليوم أصبحت المرأة السعودية تقود سيارتها مثل بقية أخواتها الخليجيات، فتذهب إلى عملها بنفسها بدون الاحتياج إلى خدمة السائق الأجنبي وكلفته المالية، وتأخذ أولادها الى مدارسهم بأمان، وتعين زوجها في أعماله، ما كان كل ذلك يتحقق لولا القوة المتصاعدة لحركة التاريخ نحو إحقاق الحقوق وإنصاف المظلوم ورد الاعتبار للمهمّش، ذلك مكر التاريخ أو الأدق ذكاؤه، يسري في عمق بنية المجتمعات، فيغير العادات والتقاليد والموروثات، طوعاً أو كرهاً، فيها، بالرغم من أهلها، وذلك حكم القرآن الكريم، كما يحدثنا المولى تعالى في سورة يوسف، عليه السلام "كذلك كدنا ليوسف" وهو الكيد الإيجابي، كما يحذرنا عز وجل عن مصاير أقوام وأمم جمدت على مواريثها البالية، وأبت أن تنصاع لدعوات الحق لرسلها وأنبيائها ومصلحيها، وأغلقت عقولها وعاندت وتمسكت بتقاليد الآباء والأجداد من غير أي مراجعة أو تفكير نقدي، ورفضت التغيير، واستمرت في ظلمها وبغيها واستعلائها وجبروتها على الضعيف والفقير والمسكين ومن لا ظهر له من الفئات الاجتماعية المهمشة، فكانت عاقبتها الخسران والدمار والفناء.

ويختم القرآن في أعقاب تلك التغييرات العاصفة دائماً، بآية بالغة الدلالة على ما ذكرنا من حتمية التغييرات رغماً عن المجتمعات، يقول المولى تعالى "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". هذه الآية تعبر بدقة عما يعتمل في بنية الأعماق البعيدة للمجتمعات من تغييرات خفية تتراكم بمرور الزمن، فتحدث تغييرات نوعية مفاجئة، تنقل المجتمعات من وضعية اعتادت عليها إلى وضعية مغايرة، من شأنها إنصاف من حرم من حقوقه، وما رسالة الأنبياء والرسل والمصلحين في النهاية، إلا تغيير المجتمعات لتكون أكثر إنصافاً للمظلوم واليتيم والفقير والضعيف والمهمش.

التغيير الاجتماعي المتعلق بالمرأة هو الأصعب في دنيا العرب، تغيرت وضعية المرأة العربية في المجتمعات العربية الحضارية المركزية: مصر، سورية، العراق، منذ زمن مبكّر، وبقيت الأوضاع الاجتماعية في معظم الدول الخليجية تقاوم التغيير، تغيرت أمور كثيرة في الخليج، إلا ما يمس وضعية المرأة وحريتها الاجتماعية، عانت المرأة في مجتمعاتنا العربية قروناً متطاولة، من الظلمات: ظلمة الجهالة، وظلمة الدونية، وظلمة اللامساواة وانتقاص الحقوق وسوء المعاملة، وكان دعاة الإصلاح والتغيير يجاهدون في سبيل إنصافها، ورفع الظلم عنها، لكن مجتمعاتنا الأسيرة للتقاليد والعادات والموروثات الراسخة في بنيتها، أدارت ظهرها لتلك الدعوات، واتهمت المصلحين باطلاً، فلم تفلح الجهود في تغيير الأوضاع الاجتماعية إلا قليلاً، وهكذا كان تدخل القيادات السياسية المؤمنة بإنصاف المرأة، أمراً ملحاً ومثمراً، لتغيير القناعات المجتمعية وإحداث التغيير المنشود، وهو ما حصل في كل التغييرات التي أدت إلى حصول المرأة العربية على حقوقها، في المجتمعات العربية عامة، على امتداد أكثر من قرن في مسيرة المرأة العربية ونضالها لنيل حقوقها المشروعة.

ختاماً: المجتمعات الذكية هي التي تسارع لأخذ زمام المبادرة، وقيادة التغيير، وتطوير تشريعاتها بما ينصف مواطنيها، قبل أن يفرض عليها من الخارج، الواقع الاجتماعي الخليجي أفرز وصول المرأة الخليجية اليوم، إلى مواقع صنع القرار، لكن التشريعات الاجتماعية المتعلقة بالأسرة، لا تواكب التحولات المجتمعية المتسارعة، هناك فجوة تشريعية واسعة بين حركة المرأة العربية والخليجية وجمود التشريعات، والمطلوب اليوم إعادة النظر في هذه التشريعات ومراجعتها طبقاً للتحولات المتسارعة، وتفعيلها بما يتوافق وحقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي صادقت عليها دولنا.

* كاتب قطري