كان على ثورة الكرامة أن تقدم درساً في حكم القانون بالنسبة الى النخبة السياسية في أوكرانيا، ولكن ذلك لم يتحقق، وقبل أن نعتبر أن هذه الحركة المستلهمة من العدالة الاجتماعية قد تبددت وانتهت يتعين علينا الاعتراف بفضلها في إحياء وإبراز دور المجتمع المدني في أوكرانيا، وحشد جيل من الإصلاحيين ووصول قادة من الشباب والموهوبين إلى سدة الحكم في ذلك البلد، ويمثل هذا الجيل من القادة في الوقت الراهن إزعاجاً وضيقاً لإدارة تتعاطف مع الغرب وتقوم بما يكفي فقط من أجل تطوير مؤسسات قانونية مطلوبة منها من قبل الجهات الدولية المانحة، فيما تشدد قبضتها على الوزارات والمحاكم ومكتب الادعاء العام.

المهام القانونية التي انبثقت عن موجة الاحتجاجات التي شهدتها الساحة المركزية في ميدان نيزالجنوستي كانت ضمن أكثر إنجازات أوكرانيا أهمية، وقد استهدفت الفساد الذي انتشر على المستويات العليا، فيما أسهمت في تمكين وتعضيد قدرة الشعب الأوكراني على بلوغ العدالة، ولكن ترتيبات القطاع العام تحد من قدرة الوكالات الجديدة التي انبثقت عن موجة الاحتجاجات على تنفيذ مهامها نظراً لأنها تتعرض لضغوط من جانب المسؤولين الذين يشرفون على أعمالها.

Ad

ويشكل هذا الوضع محنة رئيسة بالنسبة الى الإصلاحيين في أوكرانيا، كما أن االقادة الجدد ينفذون مهامهم ضمن روح ثورة الكرامة في ظل التعرض إلى خطر إزعاج الطبقة العليا في البلاد وإمكانية إنهاء خدماتهم وحتى التهديدات التي توجه إلى سلامتهم الشخصية، وفي هذه الحالة يتعين عليهم العمل كما هو مطلوب منهم والمجازفة بفقدان الدعم من جانب المجتمع المدني والشعب الأوكراني.

العلاقة مع أميركا

وفي عدة مناسبات تمكن القادة الجدد في أوكرانيا من طرح نوع يشابه المساءلة في ديمقراطيتهم الناشئة ولكن الدعم الدبلوماسي الغربي كان يشكل أحد المكونات المهمة من أجل تحقيق تلك الغاية، ويتعين أن يستمر ذلك الدعم على الرغم من قرار الولايات المتحدة المتعلق بمراجعة علاقتها مع حكم القانون.

وقد انبثقت وكالة جديدة مستقلة عن ثورة الكرامة تملك سلطة التحقيق مع مسؤولين متهمين بالفساد بالطريقة التي تراها مناسبة، ولكن قراراتها المتعلقة بمقاضاتهم ليست محمية من النفوذ السياسي على أي حال.

وإضافة إلى ذلك فإن السيطرة التنفيذية على مكتب الادعاء العام التي مكنت رؤساء أوكرانيا في الماضي من حبس خصومهم السياسيين لا تزال سارية، وبدلاً من معالجة التقليد القديم في البلاد المتمثل بتسييس الادعاء، والذي أدى دوراً كبيراً في إطلاق شرارة احتجاجات سنة 2014، فإن سلطة التعيينات تعرضت لتشويه في مجالات السياسة، ومن المفارقة أن النائب العام الحالي يوري لوتسينكو كان أحد السجناء السياسيين في عهد إدارة يانكوفيتش، كما أن سلف لوتسينكو وهو فيكتور شوهكين استمر في عمله سنة واحدة فقط.

وفي أوكرانيا ما بعد موجة احتجاجات الميدان لم تغدُ المسألة المهمة القضايا التي يتم توجيهها للاتهام، بل تلك التي يتم تجاهلها، ويتعين أن يعتبر ذلك تقدماً مهماً كما هي الحال بالنسبة الى اتهام مسؤولين من أمثال رومان ناسروف وهو الرئيس السابق لهيئة الدولة المالية المتهم باختلاس أكثر من 75 مليون دولار.

ولكن احتمالات وجود أداة مقاضاة مستقلة تبدو بعيدة الى أن يتم إصلاح تفويض تشريعي وجعل وثائق وسجلات الاتهام بقضايا الفساد علنية، والأكثر من ذلك أن الأمور غدت أشد تعقيداً وإرباكاً بعد أن قدمت جهات معنية أدلة على تورط مسؤولين في عمليات عرقلة العدالة من خلال التأثير على الادعاء العام والقضاة وتهديد المتهمين أيضاً.

العدالة لكل الأوكرانيين

تمثل القضايا التي شهدها مكتب الادعاء العام أدلة على استمرار التعيينات على غرار ما كان يحدث في العهد السوفياتي التي يتم من خلالها تعيين الموالين في المناصب الرسمية بدلاً من الشخصيات التكنوقراطية المؤهلة بصورة عالية، وقد ترددت أصداء الدعوات الى تعيين جيل جديد من القادة الأوكرانيين في مناصب حكومية في مختلف الأوساط، وفي قطاع القضاء لا تقتصر الحالة العقيمة للاستقلال السياسي على حماية الشخصيات المسؤولة عن الفساد بل إنها تقوض ثورة الكرامة وقدرة الأوكرانيين على نيل العدالة.

وخلال ذروة الثورة قدمت هيئات الدفاع العامة مجموعة من المحتجين الذين تعرضوا للضرب أمام قصر الرئيس السابق يانوكوفيتش وتم اعتقالهم لعدة شهور، وفي الوقت ذاته أبلغ رجال الشرطة المشتبه فيهم بحقوقهم في طلب محامين، وتجدر الاشارة الى أن المادة رقم 59 من الدستور الأوكراني التي تضمن تلك الحقوق منذ سنة 2000 قد اعترفت بها المحكمة الدستورية ولكنها تظل من دون تأثير بصورة فعلية.

وتسعى هيئات الدفاع العام الى تقوية موقفها عن طريق تقديم سمات قضائية الى مهنة حيوية من خلال إقامة علاقات مودة بين الادعاء العام والقضاة، وهي مهمة تلائم الرئيس السابق لتلك الهيئات أندري فيشنفسكي.

وكان فيشنفسكي حرص طوال عمله على مكافحة الفساد داخل النظام القضائي ودعا الى القيام باصلاحات فيه، ولكن على الرغم من ذلك وعندما طرح التفاصيل المتعلقة بكيفية عمل محامي الدفاع على شكل وسيط بين رشوة بين القضاة والموكلين أمام لجنة تعالج الإصلاح القضائي في الدولة في سنة 2015 غضبت جمعية المحامين الأوكرانية منه وقررت طرده.

وفي السنة الماضية وعندما تمت ترقية فيشنفسكي الى منصب نائب وزير للعدل بعد أن أشرف على تطوير هيئات الدفاع العام منذ نشأتها أعلنت وزارة العدل الأوكرانية تعيين أحد الموالين خلفاً له، فتحدت الهيئات العامة قرار التعيين الذي صدر عن وزارة العدل ودعت الى إجراء رسمي في هذا الصدد، وبعد موافقة الوزارة على هذا الطلب تمكن مرشح الحكومة من التغلب على ثلاثة مرشحين يتمتعون بخبرة أوسع في القضايا الجنائية والمدنية.

في غضون ذلك تملك الغضب والاستياء هيئات الدفاع العام ومجتمع حقوق الإنسان، وعمدوا الى الاحتجاج أمام مكاتبهم خلال زيارة قام بها وزير العدل الأوكراني بافلو بترينكو- وهو عمل لم يكن ممكناً قبل موجة احتجاج الميدان- وقالوا إن هذه العملية خلت من الشفافية وتتعارض مع معايير التعيين المرعية.

موقف الشركاء

لم يتقبل الشركاء في الولايات المتحدة وكندا الذين تابعوا نمو هيئات الدفاع العام، ونتيجة لشعورها بالضغط قررت وزارة العدل تغيير اختيارها، وأعلنت دورة ترشيح جديدة، كما أنها وفي ضوء إصرار البعثات الأجنبية عمدت الى توقيع مذكرة تفاهم مع هيئات الدفاع العام، مؤكدة أنه لن يتم تسريح أي موظف اعترض على التعيين المشار اليه. ولكن الحظ لم يحالف فيشنفسكي، فقد أفضى دعمه الى شغل منصب نائب الوزير الى المطالبة باستقالته وذلك بعد أسابيع قليلة فقط من ترقيته.

قادة المستقبل

ومع إجراء الانتخابات الرئاسية بعد أقل من سنة قد لا يكون موقف إدارة بوروشنكو المتشدد ضد الكرملين كافياً من أجل إقناع الناخب الأوكراني، فالإدارة كان قد تبنت القانون الدولي بغية حماية حدودها من الضم غير القانوني لشبه جزيرة القرم من جانب روسيا والأعمال العدائية في دونباس. ولكن الإدارة أهملت سلامة النظام القضائي المحلي والتقدم في مكافحة الفساد، كما أن بوروشنكو عندما أغضب المجتمع المدني من خلال رفضه دعوة ذلك المجتمع الى مشاركة دولية أوسع في عملية الإصلاح القضائي في البلاد ربما أدرك تماماً أن تطوير المساعدة القانونية ينطوي الآن على عواقب حقيقية، ويتعين لهذه الغاية أن يستمر التزام الولايات المتحدة ازاء حكم القانون في أوكرانيا من أجل توجيهها في دعمها الدبلوماسي للمساهمين في احتجاجات الميدان وقادة المستقبل في أوكرانيا.

كريستوفر راسل– ناشيونال إنترست