هناك فرق بين العارف وحامل المعرفة، العارف يقوم بتحصيل المعرفة ولا يهدأ حتى تتحول إلى جزء من نسيجه العقلي والنفسي، وهو في سبيل ذلك لا يقوم بفعل خامل روتيني بسيط، بل إنه يتفاعل تفاعلا مرهقا وممتعا في الوقت نفسه مع كل ما يطرق باب عقله وشعوره من معارف. العارف لا يقوم بتسكين المعرفة في أرفف ذاكرته، بل على العكس، قد تضيع المعلومات بصورتها الكومبيوترية الجامدة من رأسه بعد أن تكون قد أدت دورها في صقل آلة التفكير وتعميق الوعي بأفكار رئيسة وبقيم الإنسانية الكبرى. لا يهتم العارف بتاريخ إنشاء مدينة القاهرة، أو دمشق، ولن يهتم كثيرا بمعرفة خريطة أحيائها، لكنه سيكون قادرا على الحديث عن روح المكان وأهم ما يميز أهله أو يعيبهم، وسيشعرك بعبق التاريخ الذي يتخلل مثل هذه الأماكن دون أن يرد على لسانه رقم إحصائي واحد. العارف يقول أفكاره ببساطة وبلا تقعر في المصطلحات، وسيمكنه أن يعيد عليك ما قاله بأكثر من طريقه، لأنه يعرف ولا يحفظ، يهضم ولا يجتر كالناقة. والعارف كلما زادت معرفته يزداد تواضعه بالضرورة، ويصعب أن يدخله كبر أو غرور، فالمعرفة هي قرين انكشاف أوهام التفوق العنصرية البغيضة، والمعرفة هي معول الهدم الذي يكسر الأنانية والأثرة والتمركز حول الذات. السر وراء هذا أن المعرفة تكشف للإنسان نسبيته، وتضع في عينيه وروحه شموسا تضيء الدنيا وتضيء نفسه، فيهدأ بها الإنسان، ويبصر نفسه ضمن العالم وليس فوق العالم، ويعرف حجمه دون تضخيم جاهل.

في المقابل هناك نمط عجيب من البشر تزايد عدده في عصر الكومبيوتر، وله أصول في الثقافات الإنسانية عموما، وهو الذي قال عنه القرآن الكريم "كمثل الحمار يحمل أسفارا". إنه من يحمل معرفة في مجال معين، يستخدمها كما تستخدم الآلة برامجها الموضوعة سلفا، ولا يملك قنوات اتصال بين ما يحمل من معرفة وبين عقله ونفسه ومشاعره وتصوراته عن العالم. مثل هذا الشخص هو كومبيوتر مصغرلا روح فيه، سوى ما تطفح به الغريزة البدائية من شهوات وتطلعات ساذجة لم تهذبها المعرفة التي يحملها، وأنى لها؟. حامل المعرفة لا يسمح لها بدخول نسيجه العقلي والنفسي، لذا يمارس كل أشكال المظهرية الكاذبة والتعالي المقيت، ويستعرض معارفه حين يستدعي الأمر لتحقيق تفوق زائف، لكنه يعجز عن تطوير إنسانيته باستخدام تلك المعرفة المعلبة، المحاطة بمواد حافظة تمنع من هضمها. حامل المعرفة له دور وحيد مهم في الحياة وهو نقل ما يحمل إلى غيره، وهو حين ينقل ما يعرفه لا يضيف إليه من نفسه شيئا، ولا يبدع شيئا يساعد في تطوير حمولته، بل إنه – في أحسن الأحوال – يقدم الفهم السائد الشائع للمعرفة التي يحملها. يسعى حامل المعرفة إلى أن يفرغ في عقول تلامذته مخزونه الساكن، ومنتهى طموحه أن يصبحوا هم أيضا من حملة المعرفة لا من العارفين، أو من المبدعين المطورين، بل إن محاولة أحدهم الإضافة أو التفاعل مع المعرفة تصيبه باستفزاز شديد، ربما يصل حد العداوة. والأمل الذي يمكن التعلق به في هذه المسألة، هو أن يؤدي انفتاح السماوات وتطور وسائل الاتصال إلى زيادة العارفين ومحاصرة حاملي المعرفة في ثقافاتنا العربية الحاملة للمعرفة في معظم جوانبها.
Ad