كتب دستور العراق وأقرته شعوب العراق عام 2005 في استفتاء جماهيري ليطبق، وخصوصا المواد المهمة التي يتوقف عليها مصير العراق المستقبلي مثل المادة 140 الخاصة بمعالجة الأراضي المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، والتي تقضي بعودة المهجرين الكرد الذين طردهم نظام البعث السابق من خلال عمليات التعريب والتهجير القسرية إلى أراضيهم، وإعادة الأمور إلى نصابها، والمادة 119 التي تقضي بتشكيل الأقاليم، فلو طبق "السنّة والشيعة" اللذان يكونان غالبية عرب العراق، هذه المادة المهمة وأنشأ كل واحد منهما إقليمه الخاص، وعاشا بالأسلوب الذي يرتئيانه والمبدأ الذي يعتقدانه ضمن عراق اتحادي فدرالي، لما اتسعت الهوة بينهما، وتورطا في حرب أهلية طائفية في عامي 2006 و2007 والتي ذهب ضحيتها مئات الآلاف.

لا بد للطرفين من إدراك حقيقة في غاية الأهمية، وخصوصا بعد أن سالت الدماء بينهما، وهي أنهما لا يستطيعان العيش معا ضمن مجتمع واحد وحياة مشتركة واحدة في ظل حكومة يهيمن عليها أحدهما ويفرض فيها أجندته الطائفية، تحت أي حجة من الحجج سواء الأكثرية السكانية أو الأغلبية السياسية التي يروج لها ائتلاف رئيس الوزراء السابق (المالكي) أو الأغلبية الوطنية التي يرفع شعارها زعيم ائتلاف الحكمة (عمار الحكيم)، ولكن تعنت الأحزاب الشيعية وإصرارها على عدم تطبيق الدستور وإعادة الحكم المركزي القوي إلى الدولة في ظل هيمنتها المطلقة، جعل العراق يعيش أزمة دائمة وصراعا مستمرا.

Ad

ربما أدرك المشرع العراقي عندما كتب الدستور طبيعة التناقضات الصارخة بين المكونات الثلاثة الرئيسة في العراق "السنّة والشيعة والكرد"، لذلك شدد على أن يكون النظام السياسي في العراق نظاما اتحاديا يتكون من أقاليم عدة، وقد طالب الرئيس السابق للمجلس الأعلى الإسلامي الراحل عبدالعزيز الحكيم مرارا، ومعه بعض القوى الشيعية بتشكيل إقليم للشيعة في الجنوب على شاكلة إقليم كردستان، ولكن جوبه طلبه بالرفض القاطع من الأحزاب السنية التي اعتبرتها محاولة للانفصال وتقسيم البلاد، ولكن عندما خاضت صراع السلطة مع ائتلاف دولة القانون الحاكم وأخفقت أن تكون شريكا حقيقيا في الحكم، وفي صياغة القرارات المصيرية للبلاد، وتيقنت أنها تخرج من "المولد بلاحمص" كما يقولون، أخذت تغيّر استراتيجيتها وتنادي بإنشاء إقليم سنّي وفق ما جاء في الدستور، ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن تمكنت السلطة الطائفية من إحكام قبضتها الحديدية على مرافق الدولة والانفراد بالحكم.

مهما ادعت الأحزاب الشيعية الحاكمة، على اختلاف تنوعاتها السياسية الوطنية العراقية، وعزفت على أوتارها، فإن تجربتها المريرة في الحكم منذ عام 2003، ومسيرتها الطويلة في إثارة الأزمات والصراعات المستمرة مع السنّة والكرد من خلال ميليشياتها المسلحة، تؤكد أنها تعمل وفق أجندة سياسية ومذهبية مدروسة ومنظمة لتكريس الهيمنة على البلاد.

ولن يستطيع العراق الخروج من مشاكله الكثيرة وأزماته العميقة من خلال عقد اتفاقات وتحالفات سياسية دون الرجوع إلى الدستور وتطبيق ما جاء فيه كما هو لا كما تريده تلك الأحزاب، وتنتقي منه ما يوافق مصالحها الطائفية الضيقة. العراق بلد معقد ومتشابك لا يشبه أي بلد آخر في المنطقة، يجب أن يقاد بالتوافق والشراكة بين مكوناته الثلاثة الرئيسة، وغير ذلك ليس إلا خداعا وضحكا على الذقون!

* كاتب عراقي