هل لا بد من "آخر" لنا يكملنا في هذه الحياة؟! هل لا بدّ من آخر يقاسمنا أنفاسنا، وأسرارنا، ووسادة أحلامنا، والمساحة الصغيرة داخلنا، والتي نلجأ إليها للهروب من... سوانا؟!

"آخر" يظهر فجأة أمام أعيننا من لا مكان ويُربك سلامنا الذاتي، وهدأة أرواحنا، ويلزمنا بإعادة النظر باتفاقيات الصلح ومعاهدات السلام التي كنا عقدناها مع أنفسنا قبل ظهوره في طريقنا، ويجبرنا على مراجعة أولوياتنا الحياتية؟!

Ad

"آخر" نضطر بسببه إلى إعادة "صياغتنا" من جديد، وإجراء التعديلات اللازمة علينا لنصبح نحن وهو شخصاً واحداً؟! هل هذا "الآخر" والمسمى أحياناً شريك الحياة ضرورة لن تستقيم الحياة بدونها؟! هل حقيقي أننا لن نشعر بالطمأنينة والأمان ما لم نتفيأ قلباً آخر، وبدوره يظلنا ذلك القلب بظلّه؟! وهل ربما لهذا لم يخلق الله في جوف امرئ قلبين ليظل في سعي دائم في هذه الحياة بحثاً عن القلب الآخر؟!

هل نحن عاجزون عن الحياة، مستمتعون بفردانيتنا؟، كلٌّ مكتفٍ بذاته وبدون إقحام "آخر" من خارجها ليكون وسيطاً بينه وبين نبضه؟! مذاهب فلسفية مجّدت الفردية ووجدت فيها "كونية تسمح للعبقرية الأصلية أن تنمو" كما يقول جيمس أليشاما سميث، وأتت الابتكارات التكنولوجية المذهلة والسريعة، والتي عززت الشعور بقدرة الفرد على أن يكون معزولاً عن الحياة دون أن ينفصل عن كل ما يحدث فيها، وقدرته على أن يكون بمفرده، جزيرة نائية بمقاييس رغباته تماماً، يأتيه المأكل والملبس وكل احتياجاته الأخرى إلى باب منزله، بل والعمل من مخدع نومه، منزوٍ في ركن في الحياة بين مليارات من "الجزر البشرية" الأخرى... مثله، كما أدخلت التكنولوجيا تعديلاً خطيراً على سلوك الإنسان المعاصر، يتمثّل في مقدرته على "الاستغناء" والاكتفاء بذاته، بتوفير البدائل التكنولوجية، كل ما قد يفعله الآخر لنا بإمكاننا الحصول عليه عن طريق التكنولوجيا، شاركناها جلّ أوقاتنا، وأبقينا سقط اللحظات للآخر، فهي تملك من الإغواء والسحر أكثر مما يملكه البشر، فلم نملك سوى الوقوع في أسرها، نصدقها أكثر، نثق بها أكثر، نرتجي رضاها أكثر، نتحمّل فقد بشر آخر ما شاء الزمن، ولكن سنفقد صوابنا لو فقدنا شبكة الإنترنت ساعات معدودة، كأنما الفردية التي جذّرتها فينا، والاستغناء الذي أوهمتنا به هو استغناء الإنسان عن إنسان آخر فقط، وليس عمّا سواه، أصبحت علاقاتنا الإنسانية المباشرة هشة وقابلة للكسر وسريعة الذوبان، وعلى الرغم من فضل التكنولوجيا في ابتكار ما لم يكن يتصوره عقل عادي من وسائل الاتصال بكل الأشكال بيننا، فإنها وفرت في الوقت ذاته كل ما يشغلنا عن التواصل مع كل ما هو انساني، إلاّ في الحدود الدنيا، بما في ذلك التواصل مع أنفسنا، منحتنا العزلة ولكنها لم تمنحنا الخصوصية، التكنولوجيا لم تمنحنا التواصل، وإنما سهّلت الوصول، اختصرت لنا الحياة في شبكة "واي فاي"، ولكنها حياة خالية الطعم، فالحياة هي ما نعيشه واقعيّاً مع... أناس آخرين، هي ما ينمو تحت بصائر قلوب متحدة وأبصار متعانقة، وتصبح أجمل عندما تكون عمراً مغزولاً بآخر!

لكي نتمتّع بالحياة قليلاً، لا بد أن نتخفّف من قدرتنا على الاستغناء عن آخر... كثيراً!