يستحق النجاح أن نبحث عن أسبابه، لعلها تسهم في فهم الحالة المتردية التي تسم الثقافات العربية. وقد وقفنا عند لاعب الكرة محمد صلاح الذي تحول إلى ظاهرة يتعلق بأذيالها كثيرون من باب البحث عن أمل، أو من باب الاستخدام السياسي والتفاخر القومي الساذج. ركز المقال السابق على فكرة المعادلة التي حققها صلاح بلا تشنج بين ثقافته الخاصة والثقافة الغربية التي أخذ بأسبابها لتحقيق نجاحه المبهر. وأود هنا الوقوف عند أسباب أخرى أحسبها وراء ظاهرة "مو صلاح".

حين فاز العالم الأمريكي الراحل ذو الأصول المصرية أحمد زويل بجائزة نوبل في الفيزياء، تعالت في الثقافات العربية الأصوات التي تمجد عبقريته وتفرده الفذ، وحاول كثيرون إلصاق منجزه بجينات قومية تجلت في شخصه، لكنه في كل أحاديثه بدا أكثر هدوءا من المحتفين به، ولفت نظري إصراره على فكرة أساسية رآها الرجل وراء نجاحه، وهي روح الفريق، والعمل الجماعي الذي لولاه ما وصل إلى ما وصل إليه. ردد زويل كثيرا الفكرة دون أن تلقى يدا تأخذها وتحاول استنباتها في تربة الثقافات العربية الجديبة. نحن نفتقر إلى روح العمل الجماعي، خاصة مع ضعف المؤسسات الثقافية والعلمية التي ترعى تلك الروح، ونميل إلى اقتناص الفرص لتمجيد الفرد ومن ورائه كومة من القيم البالية، وعلى قمتها فكرة العبقرية الممتدة في عرق بعينه، أو جماعة بعينها بغض النظر عن الظرف التاريخي/الثقافي الذي يسمح بتشكل تلك العبقرية وازدهارها، أو ربما قضى عليها في مهدها، بفرض أن لها وجودا فطريا ممنوحا في الجينات.

Ad

وفي مواجهة طوفان الاحتفاء بشخص محمد صلاح وبموهبته الكبيرة، أصر اللاعب في كل حواراته التي شاهدتها على إرجاع الفضل بالأساس للفريق والظروف الجيدة التي تتوافر في السياق الأوروبي، مثل وجود مدرب على قدر كبير من الجدية والاحتراف، ووجود نظام عام يدعم المواهب ولا يحاربها، حتى إن كان الدعم بهدف الاستثمار والربح. وبمثل ما حدث مع زويل، لم تحاول الثقافات العربية في جل ما كتب عن صلاح أن تنتبه لقيمة العمل الجماعي و روح الفريق التي تطورت في ظلالها موهبته، وهو أمر يشير إلى رغبة تلك الثقافات في استغلال نجاح اللاعب استغلالا سريعا سهلا لا يحاول اكتشاف الأسباب الأكثر عمقا والأخذ بها.

ما سبق لا يعني أن "مو صلاح" شخص خامل صنعته الظروف، بل على العكس تماما، فالدعم الذي يلقاه لا يتم تقديمه إلا بشرط العمل الجاد الدؤوب على مستويين: مستوى المهارة المهنية، ومستوى الوعي الذي يسند تلك المهارة. فمن زاوية المهارة المهنية، قال صلاح إنه يقسو على نفسه يوميا بمزيد من التدريبات، بما لا يقل عن ساعتين أكثر من المطلوب منه، كما لم يكن غريبا أن يقول صلاح في أحد الحوارات إنه محب للقراءة، وإنه لا يتوقف عنها، في مجال علم النفس خاصة. وهنا أنصح من يبحث عن سر الظاهرة "مو صلاح" أن يبدأ بحثه من قيم: العمل الجاد، الوعي الذي يعمل صاحبه على تطويره، وروح الفريق، بدلا من التفاخر الفارغ بشخص جاء تفوقه بعد الانفلات من ثقافات معادية للإبداع.