شهد سوق النفط خلال الأسبوعين الماضيين مجموعة من الأحداث اللافتة، التي تحدث لأول مرة، أو التي لم تحدث منذ زمن طويل، والتي تشير كلها إلى عدم تعافي أسواق الطاقة، ووفرة المعروض العالمي، فضلا عن تراجع الطلب.

ففي النصف الثاني من مايو صعدت أسعار النفط العالمية «خام برنت» فوق مستوى 80 دولارا للبرميل لأول مرة منذ نوفمبر 2014، قبل أن تستقر صباح أمس عند 75.40 دولارا للبرميل، مدعومة بمخاوف جيوسياسية تتعلق باحتمال حدوث تعطيلات إضافية للإمدادات، مع إعادة فرض الولايات المتحدة عقوبات على إيران، إلى جانب تفاقم الأزمة الاقتصادية في فنزويلا، التي أبلغت «أوبك» بأن إنتاجها سجل مستوى منخفضا جديدا للمدى الطويل.

Ad

تخفيف القيود

ولأول مرة أيضا منذ يونيو 2014 يتفاعل منتجو النفط مع واقع الأسعار المرتفعة نسبيا في السوق، وتتفق دول مهمة في منظمة أوبك، مثل السعودية والإمارات، مع أكبر منتج خارج المنظمة، وهو روسيا، على ضرورة تخفيف قيود خفض الإنتاج الصارمة ومراجعة بنود اتفاق إنتاج النفط العالمي المطبق منذ 17 شهرا، بما يصب نحو مليون برميل يوميا في الأسواق العالمية كي تنخفض الأسعار، تفاعلا مع مطالبات المستهلكين، لاسيما الولايات المتحدة، التي انتقدت في أكثر من مناسبة اتفاق خفض الإنتاج، وما يسببه من صعود أسعار النفط الخام عالميا. ومن المقرر أن يجتمع وزراء نفط خليجيون الأسبوع المقبل في الكويت لمناقشة قضايا من بينها تخفيف قيود خفض الإنتاج.

منافسة النفط الأميركي

وللمرة الأولى أيضا تدخل الولايات المتحدة على خط المنافسة مع منتجي النفط التقليدين، مثل أوبك وروسيا، وتحديدا في الأسواق الآسيوية، إذ تشير البيانات التجارية إلى اتجاه كميات قياسية من صادرات النفط الأميركي إلى آسيا، بواقع 1.3 مليون برميل يوميا من أصل الصادرات النفطية الأميركية البالغة 2.3 مليون في يونيو المقبل، بعد أن بلغت ذروتها عند 2.6 مليون قبل أسبوعين - الإنتاج الأميركي يتجاوز 10 ملايين برميل يوميا - في وقت علقت أكثر من شركة نفطية آسيوية بأنه إذا لم يقدم منتجو الخليج خصومات على شحناتهم فسنزيد مشترياتنا من الخام الأميركي.

وتعتبر الصين وبعدها الهند وكوريا الجنوبية أكبر المشترين للنفط في آسيا، فقد اشترت «سينوبك» الصينية مؤخرا كمية ضخمة قدرها 16 مليون برميل (533 ألف برميل يوميا) من الخام الأميركي للتحميل في يونيو المقبل، بعد أن خفضت وارداتها من السعودية، وكشفت «رويترز» أن الهند وكوريا الجنوبية ستستوردان ما يتراوح بين 6 و7 ملايين برميل على التوالي في يونيو، وسيكون للخام الأميركي دور في المنافسة للفوز بحصة منهما.

دروس

هذه الأحداث الجديدة قدمت مجموعة من الدروس المهمة في سوق النفط، أبرزها أن العالم وإن تجاوز بشكل محدود مسألة تباطؤ النمو الاقتصادي، بتوقعات صندوق النقد الدولي بنمو اقتصادي عالمي بنسبة 3.9 في المئة عامي 2018 و2019، إلا أن المخاوف تتصاعد مثلا على المديين القصير والمتوسط، بسبب زيادة مخاطر المنازعات التجارية في العالم، لاسيما بين الولايات المتحدة والصين، وعلى المدى الطويل بسبب تغيرات السياسات النقدية في العالم وتطورات التكنولوجيا وأثرها على مستويات التصنيع والتجارة في العالم، كذلك من الدروس المهمة في أحداث النفط خلال الأسبوعين الماضيين أنه في ظل سوق ضعيف يعاني وفرة العرض وصعوبات تمديد اتفاقات خفض الإنتاج فإن الدول المستهلكة يكون لديها خيار أو فرصة أكبر في تحديد سعر البرميل أكثر من قدرة المنتجين.

فالولايات المتحدة رغم أنها منتج للنفط وحاليا مصدر لدول عديدة فإنها تتعامل مع النفط كمستهلك أكثر من كونها منتجا، نظرا لطبيعة واحتياجات الشركات والمصانع الأميركية، أما التصدير فيكون في مرحلة تتعلق بتغطية حاجات السوق الداخلي، وبالتالي فإن انتقادات الرئيس ترامب لما أسماه بـ»سياسات أوبك لرفع أسعار النفط» ستظل قائمة لفترة طويلة، وتحد من أي ارتفاع كبير محتمل، تجاوبا مع أي عوامل جيوسياسية خصوصا في منطقة الخليج.

عبر

يفترض أن هذه الأحداث ودروسها تفرض على منتجي «أوبك»، خصوصا الخليجيين، الذين يعتمدون على النفط بنسب تصل إلى 90 في المئة من إجمالي إيراداتهم، سياسات مختلفة تماما عن تلك التي اعتادوا الاعتماد عليها، فأسعار النفط لم تعد سهلة الارتفاع كالسابق، والعوامل الخاصة بالنمو العالمي والحروب التجارية وحجم الطلب وتعدد المنتجين كلها تضغط على هذه الدول، في سلعة لا تمتلك وحدها قرار تحديد مسارها، وبالتالي لا حل أفضل من التوجه إلى الخيار الذي يضمن الديمومة والاستمرارية، وهو خلق اقتصاد غير نفطي مساند للمالية العامة، وتقليل الاعتماد على النفط كأساس للميزانيات ومعالجة قضايا هيكلية مزمنة، مثل انحرافات الإنفاق على المشاريع غير المفيدة للاقتصاد، وتعديل اختلالات سوق العمل، والتركيبة السكانية، وخفض أثر الانكشاف على تقلبات الأسواق والدخول في أزمات، كلما تراجعت الأسعار، فالاعتماد الكبير على النفط في سوق هش لا يمثل فقط تحديا للرفاهية بل للاستدامة.