عاش الكاتب الأميركي الأشهر "فيلب روث-Philip Milton Roth" (1933-2018) خمسة وثمانين عاماً، كان مخلصاً لمهنة الكتابة بشكل منقطع النظير، حتى صارت ممارسته للكتابة مثار تأملٍ ونقاشٍ عند الكثير من النقّاد والصحافيين والإعلاميين، وهو حيال ذلك يقول:

"جدولي هو ملكي الخاص. عادة أكتب طوال اليوم، لكن إذا أردت العودة إلى مكتبي في المساء، بعد العشاء، فإنه لا يجب عليّ الجلوس في غرفة المعيشة بحجة أني كنت وحيداً طوال اليوم. ليس من إلزامٍ يدعوني للتمتع والتسلية. أعود ثانية للعمل مدة ساعتين أو ثلاث أو أكثر. إذا استيقظت في الثانية فجراً، وهذا يحدث نادراً، لكنه يحدث أحيانًا، وقد تحرّك شيءٌ بداخلي، فإنني أضيء الضوء وأكتب في غرفة النوم. أقرأ كل الساعات في حال رغبت في ذلك. إذا استيقظت في الخامسة ولا أستطيع النوم وأريد أن أعمل، أنهض وأذهب إلى العمل. هكذا أعمل، أنا تحت الطلب، أنا مثل طبيب وغرفة طوارئ. أنا حالة الطوارئ"*.

Ad

يُنظر إلى روث بوصفه أحد أهم الكتّاب في الولايات المتحدة الأميركية خلال القرن العشرين، ولقد حصل على "جائزة الكتاب الوطني" مرتين، كما حصل على "جائزة النقاد الوطنية للكتاب" مرتين أيضاً، وحاز جائزة "بن فولكنر" ثلاث مرات، وأخيراً حصل على جائزة "بولتيزر" عام 1997.

وإذا كان روث قد نذر ووهب عمره للكتابة ولا شيء آخر، وقال في إحدى مقابلاته: "في معظم المهن هناك بداية ووسط ونهاية، أما مع الكتابة فدائماً هناك بداية". فإنه قد أعلن في الثمانين من عمره توقفه عن الكتابة، وأشار إلى أن "الكتابة ليست عملاً شاقاً لكنها كابوس".

إن شغف البعض في الكتابة، وخاصة الشباب، يأتي من حماس وفورة الفترة العمرية. ويأتي أيضاً من سحر وإغواء الكتابة، فهي لا تكشف عن وجه صعوباتها وعثرات طريقها إلا لمن يقطع شوطاً طويلاً على دربها، ويكون قد تورط في حجراتها المغلقة، فمتى صار الشخص كاتباً محترفاً، وأصبحت الكتابة هي شأن حياته الأول، فمؤكد لحظتها أن حكمه على الكتابة سيتغير، وأساس هذه التغيير يأتي من كون الكتابة تنهل من القراءة، وأن الشخص الكاتب يعيش وحيداً متوحداً طوال يومه. فهو يقرأ وحيداً ويكتب وحيداً، وإذا صارت القراءة والكتابة شأن حياته الأهم، فهذا يعني أنه منذور للوحدة بعيداً عن صخب الحياة وأضوائها وربما متعها الأطيب.

قلةٌ هم الكتّاب الذين ظلوا في الكتابة حتى آخر أيام حياتهم، وظلت كتاباتهم تحمل فكراً وإبداعاً متجدداً ولافتاً. لكن أكثر الكتّاب جاء عطاؤهم الأهم في فترات شبابهم، وشبابهم المتأخر، وأخذ منحى كتاباتهم بالانحدار في سنوات أعمارهم المتأخرة. وكأن مهارة الكتابة شأن كباقي شؤون الحياة تنمو وتزدهر وترتقي قمتها، ثم تبدأ بالانحدار والانكماش. وهذا ربما يحتم على كل كاتب أن يسأل نفسه السؤال الأصعب: متى يجب عليَّ أن أتوقف عن الكتابة؟ مع العلم بأن الكتابة بالنسبة للكتّاب المحترفين، هي شأن العيش الأساسي، وبدون الكتابة ليس من عيش!

هناك منْ يرى في القراءة والكتابة طوق نجاة لمن يدمن عليها. ففي فترات العمر المتأخرة، حين يتقاعد معظم الناس بالنظر إلى سنهم وشيخوختهم وطاقاتهم الجسدية، فإن الكاتب يبقى على علاقته وانشغاله بالقراءة والكتابة، خلافاً للآخر الذي يجد نفسه متعباً في مواجهة واقع جديد يملأه الفراغ ويصعب التكييف والتأقلم معه، وبما يصل بالبعض إلى الموت متى ما تقاعد.

الكتابة تؤثث لحظة الكاتب، لكنها بالمقابل تعتاش على تلك اللحظة، وكأنه يقف على حد سيف المعادلة: إما عيش اللحظة وإما الكتابة عنها، كونه يستحيل أن تعيش اللحظة وتكتب عنها في الآن نفسه!

• ترجمة الفقرة بتصرف من (https://www.fs.blog/2013/05/philip-roth-one-skill-that-every-writer-needs/)