في أحد أيام شهر أبريل من عام 2014 وعند الساعة 8.33 صباحاً، بثت مواطنة أميركية تدعى "كورتني آن سانفورد" صورة "سيلفي" وهي تردد أغنية يقول أهم مقطع فيها: "أغنية سعيدة تجعلني سعيدة جداً" (The Happy Song Makes me Happy).

كانت "كورتني"، ذاهبة إلى عملها في إحدى الشركات، بولاية نورث كارولينا، وأرادت أن تشارك متابعيها على وسائط التواصل الاجتماعي صورتها "السيلفي" وهي تعبر عن سعادتها وتفاؤلها باليوم الجديد، لكن انخراطها في عملية التصوير والإرسال، التي تتطلب انشغالاً بهاتفها المحمول، وربما حرصاً على متابعة ردود فعل المتابعين لها، لم يمكنها من التركيز في عملية القيادة.

Ad

وقد عرفنا لاحقاً أن شرطة الولاية تلقت إخطاراً، بوقوع حادث تصادم، عند الساعة 8.34 صباحاً لـ"كورتني"، وعلمنا أيضاً أنها فقدت حياتها في هذا الحادث.

في دقيقة واحدة التقطت "كورتني" صورة "سيلفي" لنفسها، وبثتها عبر وسائط "السوشيال ميديا"، واصطدمت بشاحنة، وانقلبت سيارتها، وماتت.

يمكننا ببساطة أن نعتبر أن "السيلفي" قتل "كورتني"، وهو أمر سيكون مدخلاً موحياً لاستقصاء أثر هذه التقنية الرائجة راهناً في حياتنا، وتحري ما إذا كانت تنطوي على سلبيات، يمكن أن تتفاقم إلى حد تقويض حياتنا ذاتها.

في ظني أن تطوراً فارقاً طرأ على علاقتنا بالصورة المُلتقطة للذات، في فورة تجليات العصر الرقمي الذي نعيشه راهناً، وأن هذا التطور أخذ تلك الصورة من وظيفتها الموضوعية والمقبولة والإيجابية إلى حالة سلبية غارقة في الابتذال والخطل، وأن هذا الأمر لا يقتصر على شعوب بعينها، ولا يرتبط بطبقة اجتماعية محددة، بل يتسع ليشمل نسبة معتبرة بين الناس من مختلف الأجناس والشرائح الاجتماعية.

نقصد بالصورة المُلتقطة للذات هنا تلك الصورة التي نلتقطها لأنفسنا باستخدام تقنية "السيلفي"، أو تلك التي نطلب فيها إلى أحدهم أن يلتقط لنا مشهداً، باستخدام الكاميرا أو عدسة الهاتف المحمول، لنعبر عن اللحظة التي نعيشها، ونجسدها.

قد تكون تلك الصورة مطلوبة لإنجاز معاملة إجرائية، وقد تكون تعبيراً عن رغبتنا في تسجيل لحظة ما نعيشها، أو إثبات وجودنا في حالة أو مكان، أو تسجيلاً لتطور ما طرأ على حياتنا، عبر توثيق ما تركه على ملامحنا، وحالتنا الجسدية.

منذ أول مشهد فوتوغرافي تم التقاطه في عام 1827، لم تتوقف الصورة الذاتية عن إدهاشنا؛ فنحن ننظر إلى صورنا الشخصية كتأريخ لحياتنا، أو محاولة لتأبيد لحظات نحسب أنها مهمة ومختلفة وقادرة على الإيحاء.

هي لحظة تأبيد اللحظة، التي نجتهد عبرها لكي نعيد تذكير أنفسنا بما نود أن نذكره دوماً، أو نعود إليه تأريخاً أو تذكيراً أو حنيناً.

الصورة الملتقطة للذات تبرز كـ"أنا رقمية"، ثبتا مصورا، يدون لحظات في حياتنا، وتطورات في ملامحنا، وانعكاسات الزمن والحالة الآنية على تفاصيلنا الجسدية.

في صورتنا الملتقطة للذات "متعة رقمية"، هي ذروة من ذرى أدائنا النرجسي، ورغم أننا نقايض بها جزءاً من خصوصيتنا، وبعضاً من حميميتنا، فإنها تعوضنا بلحظات، نبدو خلالها كالنجوم، الذين يحصدون الاهتمام، بأقل مجهود يذكر.

في صورتنا الذاتية الكثير من الاحتفاء بالذات، وإظهار الاهتمام بما تتركه التغيرات والمآلات على ملامحنا، وإعلاء الرغبة في تكريس البروز والأهمية، حتى لهؤلاء الذين يعيشون ضمن مقتضيات العادية، وسواء كنت مفردة أو نكرة أو عامياً، فالصورة ستمنحك الشعور اللحظي بالأهمية، وستجعلك قادراً لوهلة على اجتراح النجومية، وتذوق عسلها الآسر.

لكن ما فعلته "السوشيال ميديا" بالصورة كان أكبر من إحاطة أي عقل وتصور أي خيال؛ فقد حولتنا تلك الوسائط إلى مجانين بالصورة، ضربنا الهوس عبر محاولاتنا الدائبة لاستبدال ما نريد أن نبدو عليه بما نحن عليه بالفعل.

يجتهد محترفو "السيلفي" لكي تكون صورتهم الذاتية عنواناً لما أرادوا دائماً أن يكونوا عليه، ولذلك فهم حريصون على التقاطها عبر زوايا معينة، ومن خلال حسابات دقيقة، سيتمكنون من إخفاء تلك الهالات السوداء تحت العيون، أو تفادي تلك التجاعيد التي بدأت تغطي نضارة بشرتهم، أو إظهار الشعر في الوضع الأمثل، الذي يتقي العوار أو النقص أو تهافت اللون.

هي محاولة لخلق هوية مبتغاة، وترويجها، وغرسها في الفضاء الاتصالي الذي ننشط فيه على أنها حقيقتنا وهويتنا. ومطالبة متابعينا بالتعليق والاستحسان، والإلحاح على ذلك، ليست سوى تأكيد قاطع على الاصطناع والانتهاز والاستنفاع.

لا أشك في دقة مستخلصات دراسة أجرتها الرابطة الأميركية للطب النفسي عن "هوس السيلفي"؛ وهي دراسة توصلت إلى أن هذا التركيز الشديد على التقاط الصور الذاتية إنما يعد نوعاً من "الاضطراب العقلي" و"الخلل النفسي".

تقول الدراسة إن هناك فرقاً كبيراً بين التقاط صورة للذات لغرض موضوعي محدد، وبين استخدام هذه الصورة كوسيلة لتحقيق التوازن النفسي.

وببساطة شديدة، فإن هؤلاء الذين يحذفون "السيلفي" لأنه لا يظهرهم كما يرغبون، يعلنون بوضوح تخليهم عن الهدف الموضوعي للصورة.

لا تتحدث الدراسة عن هؤلاء الذين يلتقطون صورة أسبوعياً لأنفسهم، وقد يبثونها عبر وسائط "السوشيال ميديا" إن لاقت إعجابهم، لكنها تختص بمن أسمتهم "المضطربين نفسياً"، الذين يلتقطون لأنفسهم ما بين ثلاث إلى ست صور يومياً على الأقل، في حالات وأوضاع مختلفة، ثم يقومون ببثها عبر حساباتهم الإلكترونية، مظهرين الحرص على تفقد كم المشاهدات، وعدد علامات الإعجاب، التي يحصلون عليها من متابعيهم.

حين يكون مجموع ما تنفقه في التقاط الصور الذاتية أكثر من خمس ساعات أسبوعياً، بحسب تلك الدراسة، فأنت تعاني "اضطراباً وتشوهاً"، وتقاسي من الشعور بعدم الثقة، وتبحث عن وسيلة لتعويض الخلل والإخفاق في حياتك.

إنها أيضاً علامة على الإصابة بالهوس بمظهرك الخارجي، ووقوعك فريسة لاضطراب "النرجسية".

عبر إسرافنا في التقاط الصور الذاتية، سيتأكد انقطاعنا عن التحقق الموضوعي، ومعاناتنا الحرمان من حصد اهتمام الآخرين واحترامهم، وشعورنا بعدم تقدير الذات، ورغبتنا في تجاهل ذاتنا الموضوعية، والتخلي عن خصوصيتنا، لحصد إيماءات وإشارات فارغة، لن تعوضنا أبداً عما نفتقده في الواقع.

* كاتب مصري