لما كانت الليلة الثالثة والأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن نعمة بن الربيع لما ملأت له نعم قدحاً وناولته أياه، أخذه وشربه، ثم ملأت قدحاً آخر وناولته لأخت الخليفة فشربته، وأخذت العود فأصلحته وشدت أوتاره، وأنشدت على نغماته بعض الأبيات.

ومضت الساعات وهم ينشدون الأشعار، ويشربون على نغمات الأوتار، وقد تملكهم الطرب والسرور ثم فوجئوا بالخليفة دخل عليهم، فلما وقعت عيونهم عليه، قاموا وقبلوا الأرض بين يديه، فنظر إلى «نعم» والعود معها، وقال لها: الحمد لله الذي أذهب عنك المرض. ثم التفت إلى «نعمة» وهو ما زال في ثياب النساء وسأل أخته: مَن هذه الجارية التي بجانب «نعم»؟ فأجابت: يا أمير المؤمنين، هذه جارية تحبها نعم، ولا يلذ لها أكل ولا شرب إلا وهي معها.

Ad

فقال الخليفة: والله إنها مليحة مثلها، وفي غد أخلي لها مجلساً بجانب مجلسها وأنقل إليه جميع ما تحتاج إليه. ثم دعت أخت الخليفة بالطعام والشراب من جديد، وجلس الخليفة طالباً أن يسمع من نعم بعض الألحان، فأخذت العود بعدما شربت قدحين، وأنشدت بيتين، فطرب الخليفة طرباً شديداً، وأمرها أن تغني لحناً آخر، فشربت قدحاً، واهتزت فرحاً ومرحاً، ثم داعبت بأناملها الأوتار، وغنت بعض الأشعار.

ولم يزالوا في فرح وسرور إلى نصف الليل، ثم قالت أخت الخليفة له: يا أمير المؤمنين إني قرأت حكاية في بعض الكتب، أحب أن أقصها عليك. فسأل الخليفة: وما تلك الحكاية؟ فقالت له: يحكى يا أمير المؤمنين أنه كان في مدينة الكوفة، صبي يسمى نعمة بن الربيع، وكانت له جارية يحبها وتحبه، وقد تربت معه في بيت واحد.

فلما بلغا أشدهما، تزوَّج بها، وعاشا معاً في صفاء وسعادة، ثم رماهما الدهر بنكباته، وجار عليهما بآفاته، وحكم عليهما بالفراق، وكان ذلك بمكيدة دبرها حاكم غاشم لمدينتهما، إذ احتال حتى أخرجها من بيت مولاها وزوجها، ثم ادعى أنها جارية اشتراها بماله، وباعها لأحد الملوك بعشرة آلاف دينار. ولكن الملك الذي اشتراها لم ينعم بها، لأنها مرضت حزناً لفراق من تهواه، وكان عند مولاها من المحبة لها مثل ما عندها له، ففارق أهله ووطنه وسافر في طلبها.

وما زال يبحث حتى اهتدى إلى مكانها، فاحتال حتى اجتمع بها في قصر ذلك الملك، ولكنه ما كاد يلقاها حتى دخل عليهما الملك الذي اشتراها من الذي سرقها، فلما رآهما معاً أمر بقتلهما، وأبى أن يمهلهما حتى يستمع إلى حكايتهما، فماذا ترى يا أمير المؤمنين في حكم ذلك الملك عليهما؟ فأجاب الخليفة: ما أرى إلا أنه ظلمهما، وكان ينبغي له أن يعفو عنهما لثلاثة أشياء: الأول أنهما متحابان، والثاني أنهما في منزله وتحت قبضته، والثالث أن الملك ينبغي له أن يعدلَ في الحكم بين الناس، كما ينبغي له أن يعفو عند المقدرة، ولا شك في أنه بقتلهما قد فعل فعلاً لا يشبه فعل الملوك.

فقالت له أخته: بارك الله في عدلك يا أخي، والله إنك لأعدل الملوك وأرحمهم، ثم طلب الخليفة من «نعم» أن تغني له لحناً آخر...

هازم اللذات

لما كانت الليلة الرابعة والأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما طلب من «نعم» أن تغني له، أمسكت العود وغنت عليه هذه الأبيات:

غدر الزمان ولم يزل غداراً

يصمي القلوب ويورث الأكدارا

ويفرق الأحباب بعد تجميع

فترى الدموع على الخدود غزاراً

كانوا وكنت وكان عيشي ناعماً

والدهر يجمع شملنا مدراراً

فلا بكين دماً ودمعاً بعدهم

أسفاً على عهد مضى وتـوارى

لما سمع الخليفة شعرها وغناءها، طرب طرباً عظيماً، فقالت له أخته: يا أخي من حكم على نفسه بشيء لزمه القيام به، وأنت قد حكمت على نفسك! فقال لها: وكيف كان ذلك؟ فالتفتت إلى نعمة وقالت له: قف إزاء أمير المؤمنين حتى يراك ويعرف قصتك.

ثم قالت لأخيها: يا أمير المؤمنين إن هذه الجارية الواقفة أمامك ما هي إلا نعمة بن الربيع الكوفي، أما جاريته وزوجته فهي نعم، وقد سرقها الحجاج بن يوسف الثقفي، وأرسلها إليك زاعماً أنه اشتراها بعشرة آلاف دينار وأنا أسألك بحرمة أبائك الطاهرين أن تعفو عنهما، وتعيد جمع شملهما لتغنم أجرهما، فإنهما في قبضتك، وقد أكلا من طعامك، وشربا من شرابك، وأنا الشافعة فيهما، المستوهبة دمهما!

فلما سمع الخليفة كلامها، نظر إلى نعم ونعمة، فوجدهما يبكيان فقال لهما: لا تبكيا ولا تحزنا، فوالله لا أرجع في حكمي، وليس لكما عندي إلا الاكرام!

ثم قال لنعمة: كيف عرفت مكانها، ومن وصف لك هذا المكان؟ فروى له نعمة جميع ما كان من أمره، وما فعله معه الطبيب العجمي والقهرمانة، فتعجب الخليفة من ذلك غاية العجب، ثم قال: عليّ بذلك الطبيب، فلما حضر بين يديه جعله من جملة خواصه، وأمر له بجائزة، وقال: من يكون هذا تدبيره يجب أن نجعله من خواصنا، ثم أنعم على نعمة ونعم، وأمر بأن ينزلا في ضيافته سبعة أيام، أمضوها جميعاً في أرغد عيش، ثم استأذن نعمة ونعم في السفر إلى الكوفة، فأذن لهما الخليفة، وزودهما بأحسن الهدايا، ولم يزل نعمة ونعم في أفراح ومسرات، إلى أن أتاهما هازم اللذات ومفرق الجماعات.

مسرور وزين المواصف

لما كانت الليلة الخامسة والأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يُحكى أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والآوان، رجل تاجر اسمه مسرور، كان من أحسن أهل زمانه، كثير المال، ومرفَّه الحال، ولكنه كان يحب النزهة في الرياض والبساتين، شغوفاً بهوى النساء الملاح، فاتفق أنه كان نائماً في ليلة من الليالي، فرأى في نومه كأنه في روضة من أحسن الرياض، وفيها أربعة طيور بينها حمامة بيضاء مثل الفضة النقية، فأعجبته هذه الحمامة، ووقعت من قلبه موقعاً حسناً، وفيما هو يتطلع إليها ويداعبها بيده، انقض عليه طائر عظيم وخطفها من يده وطار هارباً، فعظم ذلك عليه ووقف يصرخ ويبكي.

ثم انتبه من نومه، وأخذ يتعجَّب من هذا الحلم العجيب، وبقي كذلك إلى الصباح، ثم قال لنفسه: لا بد من أن أبحث اليوم عمَّن يفسر لي هذا المنام. وغادر منزله لهذا الغرض، وصار يبحث ويسأل عن واحد يفسر له منامه، إلى أن تعب من كثرة المشي والسؤال، وتملكه اليأس من الحصول على ما يريد، وفيما هو راجع إلى منزله، خطر في باله أن يمر على دار لأحد زملائه التجار الأغنياء، فتوجه إليها، وما كاد يقترب منها حتى سمع صوت أنين، ينبعث من قلب حزين، وهو ينشد هذه الأبيات:

نسيم الصبا هبت لنا من رسومها

معطرة يشفي العليل شميمها

وقفت بأطلال دوارس، سائلاً

وليس يجيب الدمع إلاّ رميمها

وهبت نسيمات لطاف، سألتها:

هل الدار في يوم يعود نعيمها؟

وأحظى بظبي مال بي لينُ قدِّه

وأجفانُه الوسني سباني سقيمها؟

لما سمع التاجر مسرور ذلك الصوت، نظر داخل البيت، فرأى روضة من أحسن الرياض، في وسطها ستر من ديباج أحمر، مكلل بالدر والجوهر، ورأى من وراء الستر أربع جوار، كأنهن الأقمار، بينهن صبية، ذات طلعة بهية، وقامة سمهرية.. بعينين كحيلتين، وحاجبين مقرونين، وفم كأنه خاتم سليمان، وشفتين وأسنان، كالدر والمرجان، وهي تسلب العقول بجمالها، وقدها واعتدالها، فدخل مسرور الدار، وهو يقول: يا رب يا ستار. ولما وصل إلى الستر وقف يتأمل في محاسن تلك الصبية، ثم سلم عليها فردت التحية، بصوت أعذب من الألحان الشجية، فطار عقله، وذهب لبه. ووقف ذاهلاً ينظر إلى تلك الروضة، وما فيها من الياسمين والمنثور والبنفسج والورد والنارنج وغيرها من مختلف الأشجار، المحملة بأطايب الثمار، وصوادح الأطيار. وكان الماء ينحدر إليها من أربعة إيوانات يقابل بعضها بعضاً، فتأمل في الإيوان الأول، فرأى مكتوباً على دائرة بالياقوت الأحمر:

إلا يا دار لا يدخلك حزن

ولا يغدر بصاحبك الزمان

فنعم الدار أنت لكل ضيفٍ

إذا ما الضيف ضاق به المكان

ثم تأمل في الإيوان الثاني، فرأى مكتوباً في دائرة بالذهب الأصفر هذه الأبيات:

لاحت عليك ثياب السعد يا دار

ما غردت في غضون الروض أطيار

وعطرتك نسيمات معطرة

وقضيت فيك للأحباب أوطار

وعاش أهلك في عز، وفي نعم

ما لاح نجم بأعلى الأفق سيـار

ثم تأمل في الإيوان الثالث، فرأى مكتوباً في دائرة باللازورد الأزرق:

بقيت في العز والإقبالِ يا دار

ما جن ليل ولاحت فيه أنوار

في بابك السعد يأوي كل من دخلوا

والخير منك لمن وافاك مدرارُ

ثم تأمل في الإيوان الرابع، فرأى مكتوباً في دائرة بالزمرد الأخضر هذا البيت:

هذه روضة وهذا غدير

مجلس طيب ورب غفور

وقد جمعت تلك الروضة أنواع الطير كلها، من قماري وحمام، وبلابل ويمام، وكل منها يغرد بأحسن الأنغام.

«الشاه مات»

لما كانت الليلة السادسة والأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية لما وقعت عينها على مسرور التاجر، وهو واقف يتأمل في جمالها وقدها واعتدالها، قالت له: أيها الرجل كيف تدخل بغير استئذان داراً غير دارك، وتتطلع إلى غير جواريك؟ فقال لها: يا سيدة الحسان، إني رأيت هذه الروضة فأعجبني حسن إخضرارها وعبق أزهارها، وترنم أطيارها، فدخلت لأتفرّج فيها ساعة من الزمان، ثم أمضي في سبيلي. فقالت: حباً وكرامة، تفرَّج ما شئت ثم انصرف تصحبك السلامة. فلما سمع مسرور التاجر كلامها، ازداد إعجاباً بظرفها وأدبها، مع فرط حسنها ولطافة حديثها، وأطرق لحظة وقد سبح بفكره، في أمرها وأمره، ثم تمالك نفسه، فرفع رأسه، وأنشد هذه الأبيات:

قمرٌ تبدى في بديع محاســـن

بين الربى والروح والريحان

والآس والنسرين بين بنفسج

فاحت روائحه من الأغصان

في روضة كملت جميع صفاتها

وحوت جميع الزهر ذي الألوان

والبدر يزهو من خلال غصونها

والطير تنشد أطيب الألحان

قمريها وهزارها ويمامها

وكذا البلابل هيجت أشجاني

وقف الغرام بمهجتي متحيِّرا ً

في حسنها كتحير أشجاني

وقف الغرام بمهجتي متحيرا

في حسنها كتحير السكران

لما سمعت زين المواصف شعر مسرور، نظرت إليه نظرة، أعقبته ألف حسرة، وسلبت بها عقله ولبه، ثم أجابته بهذه الأبيات:

لا تنتظر وصل التي علقتها

واقطع مطامعك التي أملتها

ودع الذي ترجو، فلست بقادر

يوماً على هجران من أحببتها

ما أكثر العشاق حين تعدّهم

وأقل أمثال التي أبصرتها

لما سمع مسرور شعرها تجلَّد وصبر وكتم غرامه في قلبه، وقال لنفسه: ما لمثلي معها حيلة إلا الصبر. ولما أقبل الليل، أمرت زين المواصف بإحضار الطعام والشراب، وسرعان ما وضعت بين أيديهما مائدة فيها مختلف الألوان، من السماني وأفراخ الحمام ولحوم الضأن وأحسن الفاكهة وأجود أنواع المشروب والمشموم، وبعدما أكلا وشربا وغسلا أيديهما، أمرت بإحضار الشمعدان وجعلت فيه شمع الكافور، كما أمرت بإطلاق البخور، ثم قالت للتاجر مسرور: صدري ضيق في هذه الليلة.

فقال لها: شرح الله صدرك وكشف غمك. فقالت له: أنا اعتدت لعب الشطرنج فهل تعرفه؟ فأجاب: نعم أنا عارف به. فوضعت بينهما شطرنجاً بديع الشكل، صنعت قطعه من الأبنوس المطعَّم بالعاج، وحليت بالذهب والدر والياقوت، فلما رآه مسرور أخذ يتأمله وقد حار فكره في بديع صنعته، فقالت له زين المواصف: هل تختار القطع الحمر أم البيض؟ فقال لها: يا سيدة الملاح؟ خذي أنت الحمر، ودعي لي البيض. فأخذت هي الحجارة الحمر وصفَّتها، وصف هو حجارته البيض، ثم بدأت زين المواصف اللعب فمدت يدها إلى أول قطعة ونقلتها، فلما نظر إلى أناملها، تعجَّب من دقتها وحسنها، وذهل عن اللعب!

فالتفتت إليه زين المواصف، وقالت له: لا تندهش. فقال لها: يا ذات الحسن الذي فضح الأقمار، اعذري المحب فليس له اصطبار. ثم أخذ في اللعب وهو مشتت الأفكار، ولم يمض إلا قليل حتى غلبته زين المواصف، وأدركت أن قلبه بحبها راجف، فقالت له: لا ألعب معك إلا برهان معلوم. فقال لها: سمعاً وطاعة. ثم قالت له: احلف لي، وأحلف لك، لا يغدر أحدنا بالآخر ولا يخونه. وبعدما تحالفا على ذلك، ابتسمت له وقالت: إذا غلبتك آخذ منك عشرة دنانير، وإن غلبتني فاطلب ما تشاء!

لما سمع شرطها، فرح كثيراً، وظن أنه سينال مراده منها لأنه لا بد من أن يغلبها في اللعب. ثم أراد أن يستوثق من ذلك فقال لها: هل تعتزمين تنفيذ هذا الشرط فوراً؟ فقالت له وهي تبتسم: أنا لم أعتد أن أحلف باطلاً. فاشتدت فرحته، وأخذ في اللعب وهو مشغول الفكر بجمالها ودلالها وقرب وصالها. أما هي فإنها انقضت على بيادقه وأفراسه وغيرها، فقضت عليها في لحظات، وما لبثت أن أعلنته بغلبتها عليه قائلة له: «الشاه مات»، فأقر بانتصارها، وأعطاها عشرة دنانير.

وبدأ مسرور التاجر يلعب معها من جديد، ممنياً نفسه بنصر مجيد وحظ سعيد، وكان على رأسها وشاح من الديباج الأزرق الثمين، فرفعته عن شعرها، وشمرت عن ساعدها، وأخذت في اللعب وهي تضحك قائلة له: خذ حذرك يا مسرور! فطار عقله، وذهب لبه لما شاهد من جمالها ورقتها وظرفها وخفتها، وأراد اللعب فإذا بيده تترك قطعة البيض وتنقل قطعة من قطعها الحمر وهو لا يشعر! فقالت له: أين ذهب عقلك؟ إن الحمر لي والبيض لك. فأجابها: من يراك لا يملك عقله ولا قلبه. فقالت له: خذ أنت القطع الحمر، وآخذ أنا القطع البيض، ولعلك بعد ذلك لا تخطئ وتكون لك الغلبة. فشكرها على لطفها وظرفها، ثم استأنفا اللعب فغلبته!

ولم يزل يلعب معها وهي تغلبه ويدفع لها في كل مرة عشرة دنانير، إلى أن قالت له: نلعب الدور بمئة دينار لعلك تعوِّض خسارتك، فوافق على ذلك، لكنه استمر في الخسارة أيضاً، إلى أن انتهت السهرة، وخسر كل ما كان معه من المال، فاستأذن في الذهاب إلى منزله حيث جاء بأموال كثيرة أخرى.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتتْ عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد