كان فريد يعيش في بيت مجاور لبيوت إخوته الـ٢٢، وكلهم يقطنون الشارع المسمى باسم جدهم الأكبر الشيخ عرب صاحب الجولات والصولات والتاريخ التليد، البيت كان واسعا يضم فريداً وأطفاله خليل وقدس وحيفا وعكا وغيرهم الكثير، وكان للبيت ارتداد كبير يضم حديقة غنّاء، أشجارها تين وزيتون، وتطل على ساحة تدعى طور سينين، وفي ليلة ظلماء أفاق فريد ليجد في حديقته شيخاً متوسلاً يبكي عند أشجار زيتونه.

سأله عن سبب قدومه؟ فأجاب بأن ها هنا قبر جده الذي وافته المنية منذ زمن قليل جداً، نحو ألفي عام فقط، رحمه فريد وخدعته دموع التماسيح، وجعل من كرمه عروس النيل وقذفها في نهر مطالب وتمنيات الشيخ المتوسل، تاركاً إياه يستظل تحت أشجار زيتونه، ويتمسح بأغصان تينه.

Ad

بعد أيام وجد فريد المتوسل متربعا داخل ديوانه، فتعجب كيف لك أن تدخل ها هنا؟ ألم ترضك ظلال الزيتون وعطر التين؟ أجاب المتوسل: بلى ولكن جدي كان يلعب ها هنا على سجادتك في طفولته، وأجد فيها ريح أسفي عليه.

تفهم فريد الوضع وتركه، فللضيف أحكام منقوشة في جينات تاريخه، دارت الأيام ومات الشيخ عثمان شيخ حارة العربان بعد مرض طويل، ودخلت جحافل الفتوة الجديد من بني الأشقر شارع عرب، طرق العلج باب فريد وسلمه عقد تملك ملزم، لا يدري عنه فريد شيئا! عقد وقعه الخواجة بلفور شيخ حارة الشمس التي لا تغيب، يلزم فيه فريد بحق للشيخ المتسول في نصف بيته!

رفض فريد، وقال: هذه قسمة ضيزى، وفزع لها قسام ولد أخته سورية، فخاف الخواجة أن يؤثر هذا على مشروعه الإنشائي الجديد "مول سايكس بيكو" السياحي، وترك الأمر إلى حين، بعدها تبدلت الأمور، وترجل فارس الساكسون عن سرج أسده العجوز، وترك شارع عرب لنسر واشنطن ودب موسكو، ولكن قبلها هيأ معهما للشيخ المتسول مكانا يزاحم به فريداً وأطفاله.

نادى الشيخ المتسول، وكان اسمه شمعون قومه صائحا: أخرجوا فريدا وأطفاله من ديار حنظل تاريخكم، إنهم قوم يتطهرون بعبق الزيتون، فأرسل فريد إلى إخوته مستفزعا بهم، هاج الإخوة وماجوا، واجتمعوا وأزبدوا واتفقوا على ألا يتجمعوا، لكنهم أبقوا على زبد البحر كما هو بالحفظ والصون، جمعوا زبد بحرهم ووقفوا خارج سور بيت فريد وأداروا كؤوس الراح، وأكلوا ما لذّ وطاب من مشويات الخطب والبيانات ومقبلات الشجب والتنديد، ثم تسمموا وفضحوا لتنقلهم الإسعاف الى مستشفى الأمراض الصوتية، ومكثوا هناك حتى اليوم.

طارت في الـ٤٨ ثلاثة أرباع البيت يا فريد، وتبعها الثلث، ثلث المساحة وثلاث لاءات ضمتها قصيدة مؤتمر الخرطوم وإشعار القمم يتبعها الغاوون، ساح زبد البحر وطبخ به شمعون، فقد كان ذكيا خبيثا، فصادها وهي طائرة وترك طيور عربانك فريسة للدخان في ٦٧، ثلاثة أثلاث والثلث كم يساوي يا فريد؟! أمة واحدة خذلتك أم وطن واحد ترجو العودة إليه؟

ما علينا! طار البيت بعيداً، ودخل في غيمة غيرك، البيت بيتك ولتمطر الغيمة حيث شاءت فسوف يأتيك حنينها، طار نسرك وما زال وكْرُه في قلبك حتى تذبل زهور بيسان الخالدة، لك الله يا فريد، تزوج الباغي بناتك عكا وحيفا وعسقلان، وصارت فلذة كبد حقيقتك القدس أسيرة بيد السارق شمعون وأولاده!

لهفي على قدسك الفاتنة نهر تاريخك الجاري، كيف صارت جارية عند شمعون متسول الأمس والمسؤول عن تغريبتك اليوم.

وللقصة بقية.