اسميا الصغيرة «نعم»، ونشأت وتربت مع «نعمة الله بن الربيع» في مهدٍ واحد. وأحب نعمة بن الربيع محظيته حباً جماً، وبادلته هي مثل هذا الحب، ثم مضت تسعُ سنين وهما على هذه الحال، ولم يكن في الكوفة من هي مثل «نعم» في كمال حسنها وظرفها، وقد حفظت القرآن والعلوم، وأتقنت الغناء والعزف على آلات الموسيقى، وفاقت أهل عصرها في ذلك كله.

بينما هما في أطيب عيش، سَمَع الحجاج الثقفي والي المدينة بأمرهما، فقال لنفسه: لا بد من أن أحتال لآخذ هذه الجارية «نعم»، وأرسلها إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، فليس في قصره مثلها في طيب غنائها وظرفها. ثم دعا العجوز قهرمانة وقال لها: امضي إلى دار الربيع بن حاتم، واحتالي لإحضار الجارية «نعم». فقالت له العجوز: سمعاً وطاعة. ثم لبست ثوباً من الصوف ولفت حول رقبتها سبحة حباتها ألوف، وأخذت في يدها عكازاً وركوة يمانية، ولم تزل في تسبيح وابتهال، وقلبها ملآن بالمكر والاحتيال، حتى وصلت إلى دار نعمة بن الربيع عند صلاة الظهر، وقرعت الباب، وباتت العجوز ليلتها تصلي وتقرأ إلى الصباح، حتى أيقنت نعم من إيمانها وتقواها، ثم أقبلت العجوز كهرمانة على نعمة ونعم، وصبَّحت عليهما وقالت لهما: استودعتكما الله. فقالت لها نعم: إلى أين تمضين يا أمي، وقد أمرني سيدي أن أخلي لك مكاناً تعتكفين فيه للعبادة؟ فقالت لها العجوز: أبقاكما الله، وأدام نعمته عليكما، إنما أريد منكما أن توصيا البواب ألا يمنعني من الدخول إليكما، وسأنصرف الآن لزيارة بعض الأماكن الطاهرة، وأدعو لكما عقب الصلاة والعبادة في كل ساعة.

Ad

خرجت من الدار، فبكت نعم لفراقها، وهي لا تعلم السبب الذي أتت إليها من أجله! وتوجهت العجوز إلى الحجاج فقال لها: ما وراءك؟ فقالت له: إني نظرتُ إلى الجارية، فرأيتها لم تلد النساء أحسن منها. فقال لها الحجاج: إن فعلت ما أمرتك به فسيصل إليك مني خير جزيل. فقالت له: أمهلني شهراً كاملاً، فأجابها إلى طلبها، وأخذت العجوز تتردد إلى دار نعمة وجاريته نعم، وهما يزيدان في إكرامها، ويرحب بها كل من في الدار.

لما كانت الليلة الأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز الماكرة المحتالة، ظلت تتردد على دار الربيع إلى أن خلت إلى نعم في يوم من الأيام وقالت لها: طفت بالأماكن الطاهرة ودعوت لك، وأتمنى أن تكوني معي لتشاهدي المشايخ الواصلين، وتتلقين البركة منهم. فقالت لها نعم: سألتك بالله يا أمي أن تأخذيني معك. فقالت لها: استأذني أم نعمة في خروجكما معي. فتوجهت نعم إلى أم نعمة وقالت لها: اسألي سيدي أن يسمح لي ولك بأن نخرج يوماً من الأيام مع العجوز الصالحة لنزور بعض المشايخ الزاهدين العابدين. فلما رجع نعمة إلى الدار سألته أمه أن يسمح لهما بتلك الزيارة. فقال لها: إن شاء الله تعالى يكون ذلك في ما بعد.

50 فارساً وهودج

وفي اليوم التالي، رجعت العجوز إلى الدار بعد خروج نعمة منها، ولما علمت من نعم بما كان من جوابه لوالدته قالت لها: تعالي معي في هذه الساعة، وسنرجع قبل أن يجيء. فقالت نعم لأم نعمة: سألتك بالله أن تأذني لي في الخروج مع هذه العجوز الصالحة، لأزور بعض أولياء الله وأعود بسرعة قبل مجيء سيدي. فقالت لها أم نعمة : أخشى أن يحضر نعمة فلا يجدك. فقالت لها العجوز: والله لا أدعها تجلس على الأرض، بل تزور وهي واقفة حتى لا تبطئ في العودة!

وما زالتا تلحَّان عليها، وتتوسلان إليها، حتى قبلت، وما خرجت نعم من الدار مع العجوز حتى توجهت بها إلى قصر الحجاج، وعرفته بمجيئها بعدما أدخلتها مقصورة هناك، فقام الحجاج مسروراً ودخل على نعم في تلك المقصورة، فلما رأته، سترت وجهها، وقالت للعجوز: من يكون هذا؟ وأين المشايخ الزهاد العباد؟ فلم تجب العجوز ووقفت ساكتة، بينما قال الحجاج لنفسه: والله إن هذه الجارية لأجمل كثيراً مما سمعت. ثم أمر 50 فارساً أن يحملوها إلى دمشق فوراً، ويسلموها هناك إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، وكتب لهم كتاباً إليه. ولم يمض إلا قليل حتى كانت نعم محمولة في هودج أرخيت ستائره، ومن حول الجمل الذي عليه الهودج 50 فارساً بأسلحتهم.

لما وصلت نعم إلى قصر الخليفة في دمشق، أمر بأن توضع وحدها في إحدى المقاصير، ويقدم لها كل ما تحتاج إليه. ثم دخل إلى زوجته وقال لها: الحجاج اشترى لي جارية من بنات الملوك بعشرة آلاف دينار. فقالت له زوجته: زادك الله من فضله. ثم أرسل الخليفة أخته لمشاهدة نعم فلما رأتها قالت لها: والله ما خاب من أنت في منزله ولو كان ثمنك مئة ألف دينار. فقالت لها نعم: يا صبيحة الوجه، لمن هذا القصر، وفي أي مدينة هو؟ فقالت لها: هذه مدينة دمشق، وهذا قصر أخي وهو الخليفة عبد الملك بن مروان. ثم قالت لها: كأنك ما علمت هذا. من الذي باعك وقبض ثمنك عشرة آلاف دينار؟

لما سمعت نعم ذلك الكلام، انهمرت دموعها، وقالت لنفسها: تمت الحيلة عليَّ، ولو قلت ذلك الآن ما يصدقني أحد، وما لي إلا أن أصبر واثقة بأن فرج الله قريب. ثم أطرقت حياء، وأحمر خداها، فتركتها أخت الخليفة في ذلك اليوم، ثم جاءتها في اليوم التالي بشيء كثير من الملابس الفاخرة، والجواهر النادرة، وجاء الخليفة بعد ذلك فجلس إلى جانبها مرحباً بها. وقالت له أخته إن هذه الجارية آية من آيات الحسن والأدب. فسأل: لماذا لا ترفع القناع عن وجهها؟ فأجابته أخته: ذلك من فرط حيائها وأدبها. وكان الخليفة رأى معصمي نعم، فوقعت محبتها في قلبه، وقال لأخته: لا أدخل عليها إلا بعد ثلاثة أيام حتى تستأنس بك. ثم خرج من عندها، وبقيت معها أخته تؤانسها، بينما نعم ساهمة مفكرة متحسِّرة، لافتراقها عن سيدها نعمة. وما أتى الليل حتى أصيبت بالحمى، ولم تأكل ولم تشرب وتغير وجهها، وانمحت محاسنها، ولما علم الخليفة بذلك شق عليه أمرها، ودخل عليها بالأطباء وأهل البصائر، فلم يقف أحد منهم على سر مرضها!

محنة نعمة بن الربيع

أما نعمة بن الربيع سيدها، فإنه لما رجع إلى داره وناداها فلم تجبه قام مسرعاً وأخذ يسأل عنها كل من في البيت، إلى أن وجد والدته جالسة ويدها على خدها فقال لها: يا أمي أين نعم؟ فقالت له: يا ولدي إنها مع من هي أشفق مني عليها وهي العجوز الصالحة، وقد خرجت معها لتزور بعض الفقراء الصالحين وتعود. فسألها: متى كان خروجهما من البيت؟ أجابت: خرجتا في بكرة النهار. فقال لها: لم أذنت لها بذلك؟ فقالت له: إنهما ألحتا عليّ في ذلك كثيراً، فقال نعمة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثم خرج من بيته وهو ذاهل عن الوجود، وتوجه إلى صاحب الشرطة وقال له: كيف تحتال عليّ وتأخذ جاريتي من داري؟ لا بد من أن أسافر إلى دمشق وأشكوك إلى الخليفة! فسأله صاحب الشرطة: من أخذها؟ فأجاب: عجوز صفتها كذا وكذا، عليها ملبوس من الصوف، وبيدها سبحة عدد حباتها ألوف. فقال له صاحب الشرطة: دلني على العجوز وأنا أرد إليك جاريتك. فقال نعمة: لا أعرف من هي هذه العجوز ولا أين تقيم. فقال له صاحب الشرطة: لا يعرف الغيب إلا الله سبحانه وتعالى. وكان صاحب الشرطة أدرك أنها فعلت ذلك بأمر من الحجاج. فلما قال له نعمة: ما أطلب جاريتي إلا منك وبيني وبينك الحجاج. قال له: امض إلى من شئت.

وتوجَّه نعمة إلى قصر الحجاج، وكان والده من أكابر أهل الكوفة، فلما وصل إلى القصر عرفه الحاجب وأدخله على الحجاج، فلما وقف بين يديه سأله: ماذا تريد؟ أجابه نعمة: كان من أمري ما هو كذا وكذا. فأمر الحجاج بإحضار صاحب الشرطة، وقال له: أريد منك أن تبحث عن جارية نعمة بن الربيع. فقال له صاحب الشرطة: لا يعلم الغيب إلا الله.

فقال له الحجاج: لا بد من أن تأخذ خيلك ورجالك وتبحث عنها في الطرقات والبلدان. ثم التفت إلى نعمة وقال له: إن لم ترجع جاريتك فأنا أعطيك عشر جوار من داري وعشر جوار من دار صاحب الشرطة. ثم قال لصاحب الشرطة: أخرج في طلب الجارية. فخرج صاحب الشرطة، ورجع نعمة إلى داره وقد يئس من الحياة وكان بلغ من العمر 14 سنة، ولا نبات بعارضيه، فجعل يبكي وينتحب.

في صباح اليوم التالي قال له والده: يا ولدي إن الحجاج احتال حتى أخذ الجارية منك، ومن ساعة إلى ساعة يأتي الله بالفرج من عنده. فاشتدت الهموم على نعمة وصار لا يعلم ما يقول، ولا يعرف من يدخل عليه، وظل كذلك ثلاثة أشهر، حتى تغيرت أحواله، ويئس أبوه من شفائه، وقال الأطباء ما له دواء إلا الجارية التي أحبها وأحبته.

الطبيب الأعجمي

لما كانت الليلة الحادية والأربعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن والد نعمة سمع بطبيب ماهر أعجمي، وصفه الناس بإتقان الطب والتنجيم وضرب الرمل، فدعاه إليه، وأجلسه بجانبه وأكرمه ثم قال له: انظر ما حال ولدي؟ فقال الطبيب لنعمة: هات يدك. فأعطاه يده، وبعدما فحصه جيداً نظر في وجهه وضحك، والتفت إلى أبيه وقال له: ليس بولدك غير مرض في قلبه. فقال له الربيع: صدقت يا حكيم، فانظر في شأن ولدي بمعرفتك، وأخبرني بجميع أحواله ولا تكتم عني شيئاً من أمره. فقال الطبيب الأعجمي: إنه متعلق بجارية، وهي في البصرة أو دمشق، وليس له دواء غير اجتماعه بها. فقال له الربيع: إن جمعت بينهما فلك عندي ما يسرك وتعيش عمرك كله في العز والنعمة.

فقال الطبيب الأعجمي: إن هذا الأمر قريب وسهل. ثم التفت إلى نعمة وقال له: لا بأس عليك، فطب نفساً وقر عيناً. وقال للربيع: أعطني من مالك أربعة آلاف دينار، لأني أريد من ولدك أن يسافر معي إلى دمشق وإن شاء الله تعالى لا أرجع إلا بالجارية. ثم التفت الأعجمي إلى الشاب وقال له: يا نعمة، اطمئن وعش في أمان الله تعالى فإنه عما قريب يجمع بينك وبين جاريتك. فاستوى نعمة جالساً، ثم قال له الطبيب: ثبت قلبك فنحن نسافر في مثل هذا اليوم من الأسبوع المقبل، فكل واشرب وانبسط لتقوى على السفر!

وأخذ الطبيب الأعجمي في إعداد معدات السفر وجميع ما يحتاج إليه، وقد كلف ذلك والد نعمة عشرة آلاف دينار، غير الخيل والجمال لحمل الأثقال في الطريق، ثم ودع نعمة والده ووالدته، وسافر مع الطبيب الأعجمي إلى حلب، وبحثا عن الجارية فيها فلم يقفا لها على أثر هناك، وعلى هذا واصلا السفر إلى دمشق، وأقاما بها ثلاثة أيام، وبعد ذلك استأجر الطبيب الأعجمي دكاناً، وملأها بالصيني النفيس والأغطية، وزركش رفوفها بالذهب والجواهر الثمينة ووضع أمامه أواني وزجاجات فيها من مختلف الأدهان والأشربة، ووضع حول الزجاجات أقداحاً من البلور، كما وضع الاسطرلاب بجانبه، ولبس أثواب الحكمة والطب، وأوقف بين يديه نعمة بعدما ألبسه قميصاً من الحرير، ولف على وسطه حزاماً مزركشاً بالذهب...

ثم قال له: يا نعمة أنت من اليوم ولدي، فلا تدعني إلا بذلك، فقال نعمة: سمعاً وطاعة!

ولما رأى أهل دمشق دكان الأعجمي وما فيه، أخذوا يفدون إليه، ويتعجبون من البضائع التي فيه، ومن جمال نعمة، وكان يكلم نعمة بالفارسية، ونعمة يكلمه بها كذلك، لأنه كان يعرفها على عادة أولاد الأكابر، واشتهر ذلك الأعجمي عند أهل دمشق، وأخذوا يتزاحمون عليه طلباً للعلاج، وهو يعطيهم الأدوية، بعد أن ينظر في القوارير المملوءة ببول المرضى، ويحدد مرض كل منهم على حسب البول الذي في القارورة، إلى أن اعتقد الجميع أنه طبيب حاذق صادق، وشاع خبره في المدينة كلها وفي بيوت الأكابر خاصة.

وبينما هو جالس في الدكان، أقبلت عجوز راكبة على حمار أغطيته من الديباج المرصَّع بالجواهر، ولما وصلت إلى الدكان شدت لجام الحمار، وأشارت إلى الأعجمي كي يساعدها على الترجٌّل، فأخذ بيدها حتى نزلت من فوق الحمار، ثم سألته: هل أنت الطبيب الأعجمي الذي جئت من العراق؟ فأجابها: نعم يا سيدتي. فقالت له: إن لي بنتاً مريضة، وهذه قارورة بها شيء من بولها، لتعرف منه مرضها وتصف لها الدواء. نظر الأعجمي إلى ما في القارورة وقال لها: يا سيدتي ما اسم هذه الجارية حتى أحسب نجمها وأعرف أية ساعة يوافقها فيها شرب الدواء؟ فقالت له: اسمها نعم يا أخا العجم!

لما سمع اسم نعم، جعل يحسب ويكتب على يده، ثم قال لها: يا سيدتي ما أصف لها دواء حتى أعرف من أي أرض هي، لأن الهواء يختلف باختلاف الأرض، كما يجب معرفة سنها، فقالت العجوز: سنها 14 سنة، وهي من الكوفة بالعراق، فقال لها: كم من الأشهر لها في هذه الديار؟ فقالت له: إن لها في هذه الديار أشهراً قليلة!

وأدرك شهرزاد الصباح... فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد