بعد شهور من التردد السمج أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعته أيضاً بريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا والصين والاتحاد الأوروبي، ويشكل هذا التصرف صورة من الاستعلاء الأميركي بالنسبة إلى القادة الأوروبيين الذين حثوا ترامب على التريث في خطوته من أجل الحفاظ على الأمن الدولي في المقام الأول.

وتمثلت ردة فعل فيديريكا موغيريني مسؤولة السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي ببيان اتسم بالحدة، حيث قالت إن الاتحاد الأوروبي وبقية دول العالم «ستحافظ على هذا الاتفاق النووي»، ولكن السؤال هو كيف سيتم ذلك؟ ويرجع ذلك الى أن الدول الأوروبية لم تظهر للرئيس الأميركي بعد أن لديه ما يمكن أن يخشاه من تجاهله لرغباتها ومطالبها.

Ad

ومن باب اليقين، طرح قادة أوروبا الفكرة التي تؤكد أن إيران التزمت بشروط ذلك الاتفاق النووي، كما أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ناشد خلال زيارته الأخيرة الى واشنطن الإدارة الأميركية عدم إلغاء الاتفاق، ورددت مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل الموقف ذاته، وكان ذلك أيضاً شأن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون.

ولكن الكلمات المجردة والمناشدات لن تمنع البيت الأبيض من المضي في قراره، كما أن ترامب، ومنذ تسلمه السلطة، كان يعامل أوروبا على شكل تابع يخضع لإرادته، فقد شكك في دور حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسخر من مهمة الاتحاد الأوروبي، واستبعد تحذيرات أوروبا المتعلقة بالأمور السياسية.

الحقيقة القاسية

في ضوء هذه الاعتبارات قد يشعر الاتحاد الأوروبي بشكل خاص أنه مضطر إلى الإقرار والتسليم بالحقيقة القاسية التي تفرض عليه التصرف بصورة تحاكي الإدارة الأميركية، وأن يغير الوضع من خلال طرح إشارة إلى واشنطن بأنه يرفض– في مسائل معينة– أن يتم تجاهل مصالحه. وعلى سبيل المثال فإن المشكلة التي سبق أن واجهها الاتحاد الأوروبي كانت في اتخاذ موقف موحد إزاء قضايا شديدة الحساسية، مثل الهجرة وهو أمر يمكن فهمه على أي حال.

ولكن لا يبدو أن الاتفاق النووي مع إيران يثير انقساماً في أوروبا: ومن بوريس جونسون المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الى ماكرون الذي يدعم التوجه الدولي يفهم رجال السياسة في أوروبا قيمة هذا الاتفاق.

والسؤال هو ما الذي تستطيع أوروبا القيام به من أجل إثارة انتباه الرئيس الأميركي؟

لقد سبق للرئيس الإيراني حسن روحاني أن أشار إلى أن بلاده ستتقيد بشروط الاتفاق النووي في الوقت الراهن، وستتعامل مع الأطراف الأخرى فيه بأمل الحفاظ على فوائده، ويفضي هذا الى تأثير من نوع ما على الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وفرنسا- وهي أطراف موقعة على الاتفاق- وتجدر الإشارة إلى أن الإقرار بتنفيذ إيران شروط الاتفاق والاستمرار في التعامل التجاري معها سيخفف من تأثير عقوبات البيت الأبيض، كما يعزز مواقف أنصار ذلك الاتفاق في طهران.

ويذكر أن السفير الأميركي في ألمانيا قال في وقت سابق إن على الشركات الألمانية التي تجري تعاملات تجارية في إيران أن تقلص عملياتها في ذلك البلد الآن، ومن شأن ذلك أن يدفع أوروبا إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات في هذا الصدد.

وفي وسع الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، أن يعلن سحب سفراء الدول الأعضاء من الولايات المتحدة، أليس هذا ما تقوم به الدول عندما ينقض الشركاء الدبلوماسيون الاتفاقيات وتعرض تلك الدول الى مخاطر أمنية وتهدد بتدمير اقتصادها؟

وبعد كل شيء فإن ذلك هو ما تهدد الولايات المتحدة بإحداثه من خلال إطلاق حرب شرق أوسطية وفرض عقوبات جديدة على شركات أوروبية، وبناء على ردة الفعل الأميركية قد تستتبع العواصم الأوروبية تلك الخطوة بطرد السفراء الأميركيين.

ردود الفعل المحتملة

وسيكون من الصعب اعتبار تلك الخطوات تصرفات غير مسؤولة؛ لأنها لن تلحق الضرر بالأعمال والمهام الأمنية الحيوية مثل تشاطر المعلومات الاستخبارية وتنسيق عمليات حفظ النظام، وعلى أي حال فإن تلك الخطوات سترمز الى انتهاك دبلوماسي صارخ يمكن أن يمتد ليصل الى ميادين أخرى تحتاج إدارة ترامب فيها الى دعم من الحلفاء.

وهكذا فإن البيت الأبيض سيواجه أول اختيار صعب في هذه العملية برمتها: أزمة كاملة في العلاقات عبر الأطلسي، وإذا تمثلت خطوة ترامب التالية في فرض عقوبات جديدة على أوروبا فسيكون في وسع الدول الأوروبية الرد بفرض عقوبات على الشركات الأميركية متعددة الجنسية التي ستقوم بدورها بتوجيه ضغط على البيت الأبيض.

ويتعين أن يتسم بالراديكالية استهداف الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة على الصعيد التجاري بسبب محاولتها التأثير بشكل سلبي على العلاقات التجارية المشروعة، ولكن ذلك سيحدث على شكل ردة فعل إزاء التصرفات الأميركية، كما أنه بموجب اتفاقية بريتون وودز لعام 1944 تم منح الولايات المتحدة من الحلفاء الأوروبيين قيادة تجارية، ولكن واشنطن ومن خلال انتهاك الاتفاق النووي مع إيران وإعادة فرض عقوبات عليها قد وجهت ذلك السلاح ضد الدول الأوروبية.

ثبات الموقف الأميركي

ومهما قام به الاتحاد الأوروبي فإن من غير الواقعي التفكير في أن الرئيس الأميركي سيغير موقفه إزاء الاتفاق النووي مع إيران، ولكن هدف أوروبا سيتمثل في إبقاء التزام طهران بذلك الاتفاق الذي يمنعها من المضي في طريق الحصول على قنبلة نووية بغض النظر عن السياسة الأميركية في هذا الشأن، ولن تتقيد إيران بالاتفاق إلا إذا اعتقدت أن الاتحاد الأوروبي سيقدم لها إعفاءات من العقوبات، وتشير التحركات في هذا الصدد إلى المضي في هذا المسار في الوقت الراهن.

ويوجد عدد قليل من الأمثلة التاريخية التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة والتي تظهر تأثير المعارضة الأوروبية للسياسة الخارجية الأميركية، فقد عارضت أوروبا بشكل أساسي تورط الولايات المتحدة في الحرب الفيتنامية ولكن القوة العسكرية الأميركية والاستقلال الاقتصادي الكبير أثبتا عقم تأثير الموقف الأوروبي، وربما أن الحرب الباردة قد أضعفت من ذلك التأثير أيضاً.

ولكن قضية إيران تنطوي على أبعاد مختلفة، فأوروبا على خلاف مع الولايات المتحدة حول الاتفاق الذي كانت أوروبا طرفاً فيه، وذلك في الميادين المتعلقة بالأهمية الاستراتيجية والإقليمية الواسعة لذلك الاتفاق، وإذا لم يتم احتواء هذا الوضع وإنهاء خضوع الاتحاد الأوروبي في ميدان السياسة الخارجية يمكننا أن نشير عندئذ الى الاتحاد على أنه المستعمرات الـ28 التي تحكم عبر الأطلسي، وهذه ليست حصيلة يجب أن ترحب الولايات المتحدة بها، وكما تعلمت بريطانيا في عام 1939 فإن من الأفضل كثيراً وجود حلفاء لا مستعمرات.

● ستيفن سيمون وجوناثان ستيفنسون – نيويورك تايمز