هل تصلح "النهضة الصينية" الحالية والصعود السياسي والاقتصادي لهذه الدولة الآسيوية الكبرى، أن تكون بديلا للنموذج التنموي الرأسمالي أو الاشتراكي، أو ما بقي من هذه التعريفات؟! كانت حياة الشعب الصيني حتى فترة قريبة قطعة من العذاب المعيشي في الريف والمدينة وكل مكان.

بدأت الصين بتجرية اشتراكية شيوعية متشددة عام 1948 وما بعده، وزايدت في التطرف على بقية الدول في ذلك المعسكر، وانتهت اليوم بنظام شبه منفتح شبه منغلق، بين الرأسمالية ذات الاقتصاد الحر والاشتراكية التي توجه الدولة اقتصادها.

Ad

للباحثة "روبين ميريديث" كتاب بعنوان "الفيل والتنين"، تقارن فيه بين الصين والهند، والنهضة الحديثة فيهما بعد كل ما عرف عنهما من فقر وجوع وتخلف.

كان الرئيس "ماوتسي تونغ" زعيم الثورة الصينية حتى وفاته سنة 1976، إذ تقول الباحثة إن مشروع الرئيس "ماو" الذي حمل اسم "القفزة الكبرى" إلى الأمام، عام 1958، أعقبته مجاعة! "واضطر الناس إلى أن يأكلوا ما لديهم من ثيران وخنازير ودجاج وكلاب التماسا للنجاة من المجاعة والبقاء على قيد الحياة، وأفادت تقارير من إقليم فنغيانغ وحده بوقوع ثلاث وستين حادثة أكل لحوم بشر في أثناء مجاعة ماو. ولكن على الرغم من التحسن الطفيف الذي طرأ على حياة الفلاحين خلال فترات بين هذه العقود فإن من بقوا على قيد الحياة بعد سنوات المجاعة في أيام ماو لم يبق لديهم ما يخسرونه".

(الفيل والتنين، روبين ميريديث، ترجمة شوقي جلال، الكويت: كتاب عالم المعرفة، يناير 2009، ص26).

وتقول المراجع الصينية إن ذلك الوضع البائس كان بداية تحريك الأوضاع في الصين: "انعقد اجتماع سري في إحدى ليالي شتاء عام 1978 ضم الاجتماع ثماني عشرة أسرة من شياوغانغ، وغمسوا أصابعهم في حبر أحمر لعقد حلف غير شرعي- أو حلف غدر وخيانة- بهدف تحطيم قواعد وقوانين المزارع الجماعية في الصين ومعارضة المبادئ الأساسية لشيوعية ماو، ومع هذه الأحرف القرمزية القانية والشفاه المغلقة الصامتة تآمر الثوار وقرروا تقسيم أرضهم المملوكة جماعيا لتكون كل أسرة مسؤولة عن الوفاء بحصة معينة من الإنتاج. وتوزَّع سكان قرية شياوغانغ كل في قطعة الأرض الخاصة به، وحين جاء وقت الحصاد جنوا ما قدره 153555 رطلا من الحبوب أي ما يوازي أربعة أمثال إنتاج السنة السابقة البالغ 40 ألف رطل".

وتضيف الباحثة أن حكومة الصين اليوم تحتفل بقرية "شياوغانغ" باعتبارها مهد الإصلاحات الزراعية في الصين، ومنطلق تحول الأمة التاريخي من اقتصاد مركزي قائم على تخطيط الحكومة الى اقتصاد السوق.

غير أن ميريديث Meredith تحذر من تصديق هذه الحكاية بتفاصيلها، فقد لا تكون إلا بعض الأساطير والنوادر التي ترافق كل نهضة وكل معجزة سياسية أو اقتصادية، و"حري أن نأخذ هذه القصة بقليل من الحذر شأن الكثير من قصص الإلهام التي تروج لها الحكومة الصينية". (ص26).

وتضيف: "سواء كانت حكاية حلف فلاحي شياوغانغ حكاية مشكوكا في صحتها أم واقعة تاريخية أو شيئا بين هذا وذاك فإن لب القصة حقيقي: الإصلاحات التي طرأت على السياسات الزراعية في الصين هيأت شرارة لأحداث التغييرات التي أفضت إلى بعث الصين من جديد كقوة عالمية واستهلت الصين إصلاحاتها الاقتصادية بتغيير الريف وليس بتشييد المصانع وناطحات السحاب التي تثير إعجاب ودهشة الزائرين اليوم".

وُلد ماو عام 1893 لأب ريفي متعلم، وانكبّ منذ بداية حياته الدراسية على الأفكار السياسية بما فيها المذاهب الفوضوية Anarchish، وانضم سنة 1921 في شنغهاي إلى الحزب الشيوعي وشارك 1927 في انتفاضة حصاد الخريف التي قمعتها السلطات، وفر "ماو" إلى الجبال، وقاد ماو ثورة أطاحت بالنظام بعد الحرب العالمية الثانية، وأعلن في الستينيات "الثورة الثقافية" للتخلص من منافسيه وخصومه، وازدادت خلالها عزلة الصين وتراجعت مستويات المعيشة فيها لأقصى حد.

وتقارن الباحثة بين الإنتاج الزراعي في الصين والولايات المتحدة فتقول: "في عام 1955 أقدم ماو على تشكيل المزارع الجماعية. لم يعد مسموحا للفلاحين بامتلاك أرض أو أن يشتروا أو يبيعوا لحسابهم الخاص ما أنتجوه إلا إذا كانوا قد زرعوه في مساحات أرض صغيرة وخاصة، ولم تمض غير سنوات قليلة حتى انخفض الإنتاج بنسبة 40 في المئة في أرض عاشت حياتها تاريخيا في صراع دؤوب لإنتاج ما يكفي البلاد من طعام. وطبيعي أن ضمان الغذاء لكل البلد حتى في سنوات الحصاد الوفير كان مسألة صعبة نظرا الى أن الصين لابد أن تكفل الغذاء لنحو 22 في المئة من سكان العالم بفضل إنتاج ما لا يزيد على 15 في المئة من الأراضي المزروعة في العالم، ونجد في المقابل أن الولايات المتحدة بإمكانها أن تكفل غذاء 1.3 مليار نسمة هم جملة سكان الصين، ويبقى لديها بعد هذا محاصيل من إنتاج حقول ولايات اختصت بسلال القمح في كاليفورنيا وتكساس ونبراسكا وأوكلاهوما لتقدم المزيد". (ص27).

أعجب العديد من زعماء العالم الثالث الثوريين وبعض قادة الدول الحديثة الاستقلال خلال المرحلة 1960- 1980 بفكر الزعيم ماو وسياساته، ربما لأنهم لم يكونوا كذلك يعرفون الكثير عما يجري في الداخل، ووجد الكثيرون فيه رمزا لما اعتبروها سياسة "عدم الانحياز" واستقلالية القرار عن الدول الكبرى وأحلافها.

وبالارتجال الزراعي نفسه قرر ماو "تحويل بلده إلى قوة صناعية وطولب الفلاحون بتسليم كل ممتلكاتهم الخاصة أولا- بما في ذلك الدراجات وأدوات الطهي- وذلك لإعادة توزيعها من القرى الغنية إلى القرى الفقيرة، ثم بعد ذلك لصهرها في أفران مقامة في الأفنية الخلفية، وكان التصور أن هذه الأفران المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد سوف تنتج كميات من الصلب تتجاوز ما تنتجه بريطانيا، وحدث نتيجة لذلك أن فسدت كميات الحبوب في الحقول لأن الموظفين الرسميين طالبوا الفلاحين بإنتاج الصلب بدلا من جمع المحاصيل.

وأصبح الفلاحون هياكل عظمية، وألفى الفلاحون أنفسهم في كل أنحاء البلاد، بمن فيهم سكان شياوغانغ مضطرين إلى قطع مسافات طويلة مرهقة بحثا عن غذاء، ولم تكن مطابخ الكوميونة تملك شيئا تقدمه سوى الثريد مما اضطر الفلاحين إلى صيد الضفادع أو الفئران غذاء لهم، وأكلوا العشب وأوراق الشجر، بل عمدوا إلى تقشير لحاء الأشجار.

ولقي مئات الآلاف من الفلاحين حتفهم جوعا، وبقيت جثث من ماتوا جوعا ملقاة في الحقول أو على طول الطرق، بينما عجز الأحياء عن مواراتهم التراب، وهلكت أسر عن بكرة أبيها في بعض القرى، واختفت قرى كاملة في بعض الأقاليم.

وخلقت سياسات ماو مجاعة عمّت كل أنحاء البلاد، حيث مات جوعا ما بين 30 و40 مليون نسمة بين العامين 1959 و1962". (ص30).

ثم جاء دور الثقافة في هذه المسيرة "وعقب تطبيق نظام المزارع الجماعية قدم ماو في عام 1966 الثورة الثقافية، وهي حملة تطهير دموية للمنافسين السياسيين وكل المثقفين الموصوفين بأنهم "باعة جائلون رأسماليون" وعلاوة على هذه الخسائر البشرية الفادحة والجماعية، تم حرق الكتب وتدمير الأعمال الفنية الصينية وتحطيم المعابد والأديرة مع قطع كل وسائل الاتصال بالعالم الخارجي. وأغلقت الجامعات أبوابها، وهو تحول كان من شأنه أن يشمل حركة الصين لعقود قادمة". (ص30).

تراخت قبضة ماو عن دفة الحكم في الصين ابتداء من 1974 واضطرته الشيخوخة والصحة المتردية إلى اعتزال الحياة العامة بالتدرج إلى عام 1976 حيث توفي.

وكما غيرت حياته مصير الصين في القرن العشرين، غير مماته مصيرها بعد رحيله! وكما كانت اشتراكية الصين مختلفة عن روسيا السوفياتية، فإن رأسمالية الصين تختلف عن الولايات المتحدة وأوروبا!