بيّنا في الحلقة الرابعة من هذه الدراسة المنشورة على هذه الصفحة الأحد الماضي، ما أثاره قانون حظر تعارض المصالح من جدل حول تفسير نصوصه، التي شابتها مثالب دستورية تناولنا بعضها في دراستنا المنشورة على صفحات الجريدة في أعدادها الصادرة في 1 و2 و22 و6 مايو، وقد تناولنا في آخرها الركن المادي للجريمة، الذي لا قيام للجريمة دونه، وأن قانون الحظر يرزأ بتجريم حالات لا تتصل بها أفعال مادية، وقد اعترف القانون ذاته بذلك صراحة، واستعرضنا حالتين من هذه الحالات، ونستكمل في هذه الحلقة الحالات الأخرى.

Ad

المادة 9 من القانون

ومن هذه الحالات التي جرمها المشرع وعاقب عليها، ما تنص عليه المادة (9) من قانون الحظر من أنه: "يحظر على الخاضع القيام بدور الوسيط أو الوكيل أو الكفيل أو الاستشاري لأي شركة أو مؤسسة خاصة يتصل نشاطها بجهة عمله".

ولأن الحكم جاء عاماً ومطلقاً فيسري على عمومه ليطول بالتجريم والعقاب:

1- الموظفين العامين المأذون لهم بالعمل لدى الغير.

2- أساتذة كليات الحقوق بالجامعة المأذون لهم بفتح مكاتب محاماة واستشارات.

3- الأطباء الاستشاريين، الذين قد تقتضي المصلحة العامة الإذن لهم بالعمل في مستشفيات القطاع الخاص للإفادة من خبراتهم النادرة فيها.

4- الحالات التي يحددها مجلس الخدمة المدنية والذي يسمح فيها للموظف في الجهات الحكومية بمزاولة بعض الأعمال التجارية أو الصناعية أو المهنية، طبقا لقانون الخدمة المدنية.

5- تجريم تمثيل الموظف العام للحكومة في مجلس إدارة أي شركة مساهمة تجارية أو صناعية رغم أن هذا التمثيل مباح طبقا للمادة (26) من قانون الخدمة المدنية.

القطاع الخاص

بل يمتد القانون بتجريم الحالات المشار إليها في المادة (9) إلى القطاع الخاص عندما يمتد بالعقاب إلى من اعتبرتهم المادة (2) من القانون في حكم الموظفين العامين في تطبيق أحكامه، وهم أعضاء مجالس إدارة المؤسسات والشركات والجمعيات والمنظمات والمنشآت ومديروها وموظفوها ومستخدموها إذا كانت الدولة أو إحدى الهيئات العامة تساهم في مالها بنصيب ما بأي نسبة كانت.

فيتوغل القانون بذلك على علاقات العمل وعدالة شروطه الخاصة بما يمثل عدوانا على حرية العمل وحق العمل المنصوص عليها في المادة (41) من الدستور.

وهي العدالة التي تحرص عليها قوانين العمل المتعاقبة، فتعلي شروط العمل الأكثر فائدة للعامل في عقود العمل الفردية أو الجماعية على قوانين العمل ذاتها، فلا تطبق هذه القوانين عليها.

القضاء وحياده وظاهرة تعارض المصالح

ولئن كان القانون 31 لسنة 1970 قد حرص عندما اختص الموظف العام بجريمتي الرشوة واستغلال النفوذ المقترن برشوة، على أن يتوسع في تعريف الموظف العام، ليشمل فئات كثيرة ما كان سيشملها تعريف الموظف العام ليعتبرها في حكم الموظف العام، ومن هذه الفئات رجال القضاء والنيابة العامة، فإن الصياغة الفنية المتعجلة المتسرعة لقانون حظر التعارض لم تراع الفارق الكبير بين هذا الحظر وبين جرائم الرشوة.

فقد أحلت تعريف القانون رقم 31 لسنة 1970 في غير محله وأوردته في غير مورده، عندما أصبح القضاة خاضعين للأحكام الواردة في هذا القانون، مع تجريم ما يقع منهم في حالة من حالات التعارض الواردة فيه، وهي حالات لا ترتبط بأفعال، مثل امتلاك القاضي سهماً في بنك أو شركة لها معاملات مالية مع الدولة، بالإضافة إلى غير ذلك من حالات وردت في قانون حظر التعارض وعاقب عليها.

ولعل فكرة تعارض المصالح في النظام القضائي في العالم كله هي الأسبق تاريخيا والأكثر رسوخاً وتشددا من الفكرة المعاصرة لتعارض المصالح بالنسبة إلى الموظف العام، فكان ينبغي على قانون حظر التعارض أن ينأى بتنظيمه عنها. فالقضاء وإن كان ميزان العدل إلا أن رجل القضاء يخضع لقواعد صارمة تمنع القاضي من سماع الدعوى، وتجعله غير صالح لنظرها في حالات تنص عليها الأنظمة القضائية، وتجيز للخصم رد القاضي في حالات أخرى حددتها، كما تجيز للقاضي إذا استشعر الحرج في غير ذلك من حالات أن يطلب من المحكمة في غرفة المشورة أو من رئيس المحكمة إقراره على تنحيه عن نظر الدعوى.

ولئن كانت للقضاء حصانة قضائية إجرائية لعلو الوظيفة القضائية وسمو مكانتها فاختص رجال القضاء بأحكام تحفظ لهم مكانتهم الاجتماعية والوظيفية، فلا يجوز في غير حالات الجرم المشهود اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق أو القبض أو رفع الدعوى الجزائية على القاضي أو عضو النيابة العامة في جناية أو جنحة إلا بإذن من المجلس الأعلى للقضاء بناء على طلب النائب العام، كما اختص المجلس بالنظر في حبس القاضي أو عضو النيابة العامة وتجديد حبسه أو أن يأمر باتخاذ إجراء آخر.

إلا أن هذه الحصانة القضائية الإجرائية لا تعصمهم من المحاسبة والمساءلة الجزائية عن أي جريمة من الجرائم التي يقترفها أحد أفراد السلطة القضائية، فالأحكام الشرعية في أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية تقرر مبدأ المساواة أمام القانون، والذي لا يعرف التفرقة أو التمييز بين الناس، أو بين شريف ووضيع، وقد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- "لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها"، وهو ما جسدته المواد 7 و8 و29 من الدستور التي تقرر المساواة أمام القانون.

ولم يلتفت من أعد هذا القانون وصاغ أحكامه إلى عشر مواد من قانون المرافعات المدنية، ومنها المادة 102 التي تجعل القاضي غير صالح لنظر الدعوى ممنوع من سماعها، ولو لم يرده أحد الخصوم في حالات كثيرة نصت عليها البنود السبعة لهذه المادة.

وأجازت المادة 104 رد القاضي في حالات أخرى كثيرة حفلت بها بنودها الخمسة، وأوجبت عليه المادة (105) التنحي عن نظر القضية، ولو لم يرده الخصوم في حالات أخرى، وأجازت للقاضي ولو كان صالحا لنظر الدعوى ولم يقم به بسبب من أسباب الرد أن يتنحى عن نظر الدعوى إذا استشعر الحرج.

وقد كانت هذه النصوص تحت نظر المشرع في قانون حظر تعارض المصالح، إلا أنه لم يلتفت إليها، عندما أخضع القضاة لأحكامه، وقد كان يمكن أن تكون أسباب عدم الصلاحية وأسباب رد القاضي الواردة في هذا القانون معينا للمشرع لينهل منها ما يمكن أن يتوافق مع واجبات الموظف العام، في تعريف الإفصاح وفي تعريف حالات التعارض، التي حفل بها قانون المرافعات، خصوصا مع ما شاب قانون حظر التعارض في تعريفه لهذين المصطلحين من غموض وإبهام.