في تناولنا لهذا القانون الذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط القانونية منذ مقالنا المنشور على هذه الصفحة يوم 25 مارس الماضي تحت عنوان "جعلوني مجرماً"، ومرورا بالدراسة التي أفسحت لها "الجريدة" صفحاتها في الحلقات الثلاث (1) و(2) و(3)، التي نشرت في أعدادها الصادرة أيام (1) و(2 ) و(22) أبريل الماضى، ونظراً للكم الهائل للعيوب الفنية التي شابت صياغة هذا القانون، فأوقعته في حومة من المخالفات الدستورية، الأمر الذي رأيت معه استكمالها في مقالي الأسبوعي بدءاً من اليوم بالدلالة الثالثة للمادة (32) من الدستور.

بعد أن انتهينا من الدلالتين الأولى والثانية للمادة (32)، وهي تؤسس لمبدأ شرعية التجريم والعقاب في ركيزته الأساسية، ودلالته الأولى هي أنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص تشريعي"، ودلالته الثانية، وهي "عدم رجعية النصوص العقابية" واللتان تناولناهما في الحلقة الثالثة من هذه الدراسة.

Ad

الدلالة الثالثة: الركن المادي للجريمة

فيما نصت عليه المادة (32) من الدستور من أنه: "لا عقاب إلا على الأفعال".

فبعد أن عانت البشرية كثيرا من عصور غابرة كان التجريم والعقاب يطولان أفكار الناس ومعتقداتهم ونواياهم وضمائرهم وسرائرهم، إلى أن أصبح الركن المادي في الجريمة ركنا أساسيا في الضمير الإنساني.

وقد استقر الفقه والقضاء، كما استقرت التشريعات العقابية بوجه عام في كل الدول المتحضرة على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسا في فعل أو امتناع عن فعل وقع بالمخالفة لنص عقابي مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجزائي ابتداء هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابا كان هذا الفعل أم سلبا، مؤاخذا عليه قانونا وداخل في دائرة التجريم. (المحكمة الدستورية في الكويت- جلسة 10/ 11/ 1988- الطعن رقم 8/1988- دستوري).

وأن كل ما يركن إليه قانون الجزاء في زواجره ونواهيه، وما يبسط عليه عقوباته، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه إيجابا أو سلبا، وأن محور الجريمة هو الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية. (المحكمة الدستورية في مصر- جلسة 12/2/ 1994 ق105 سنة 12 قضائية).

وقد تميز دستور الكويت وبعض الدساتير بأنها ترقى بالركن المادي للجريمة من كونه ركنا أساسيا في الجريمة في التشريعات العقابية إلى أن يصبح ركنا دستوريا للجريمة.

فأصبح الركن المادي في الجريمة- بهذا النص- ركنا دستوريا يقيد السلطة التشريعية فيما تسنه من قوانين عقابية، لأن الدستور لا يتصور أن توجد جريمة في غياب ركنها المادي.

المذكرة الإيضاحية تبين منطلقات القانون

وهو ما عبرت عنه المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 13 لسنة 2018 في شأن حظر تعارض المصالح في استهلال إيضاحاتها لمنطلقات القانون، بأن منطلقه الأول ما تنص عليه المادة (19) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والتي صدر القانون رقم 47 لسنة 2006 بنفاذها في دولة الكويت، والتي تنص على أن "تنظر كل دولة طرف في اعتماد ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لكي تجرم تعمد موظف عمومي إساءة استغلال وظيفته أو موقعه، أي قيامه أو عدم قيامه بفعل ما، لدى الاضطلاع بوظائفه، بغرض الحصول على مزية غير مستحقة لصالحه أو لصالح شخص أو كيان آخر مما يشكل انتهاكا للقوانين".

فقد كان خطاب هذه المادة إلى أطراف الاتفاقية، باتخاذ تدابير تشريعية تجرم أفعال الموظف العام التي يشوبها إساءة استعمال السلطة، وهي الركن المادي للجريمة، دون الاكتفاء بإرادة الفعل ذاته وهو القصد الجنائي العام، بل لابد أن تكون هذه الأفعال قد اقترفت بقصد جنائي خاص هو غرض الحصول على مزية غير مستحقة.

القانون يخرج على مطلقاته

إلا أن قانون حظر تعارض المصالح تنكب هذه المنطلقات فيما يجرمه أو يعاقب عليه، فجرم حالات لا ترتبط بأفعال تكون محلا للتجريم، وهو ما سنتناوله في هذا المبحث، كما جرم أفعالا لا يرتبط بها قصد جنائي، وهو ما سنتناوله في المبحث الرابع في المخالفات الدستورية للمادة (34) من الدستور، وما يتصل بها من نصوص دستورية أخرى.

تجريم القانون حالات مجردة من أفعال

من المقرر في أحكام القضاء الدستوري والجزائي أن إدانة الشخص تقوم عن فعل محدد يكون مادة الجريمة أو موضوعها، ولا تقوم على مجرد حالة لا تنشئها أو تتصل بها أفعال مادية قام الدليل عليها يعبر بها الجاني عن إرادته الواعية الجازمة متوسلا بها إلى بلوغ النتيجة الإجرامية التي يبتغيها. (جلسة 2 من يناير سنة 1993 في القضية رقم 3 ".

ويرزأ قانون حظر التعارض بتجريم حالات والعقاب عليها دون أن تقترن بأفعال تكون محل الجريمة والركن المادي فيها، ولا نحتاج في التدليل على ذلك لأي عناء، وقد أنصف القانون الحقيقة من ذاته عندما اعترف في أول نصوص التجريم الواردة فيه بأنه يجرم حالات فيما نصت عليه مادته الرابعة من أنه "يكون الخاضع في حالة تعارض مصالح تشكل جريمة فساد في إحدى الحالتين الآتيتين".

ويعود القانون ليؤكد اعترافه سالف الذكر في مادته الخامسة بالنص على أنه "في حالة قيام إحدى حالات تعارض المصالح يتعين على الخاضع الإفصاح عن هذه الحالة وفقا للضوابط المبينة في هذا القانون، وله في ذلك إزالة هذا التعارض إما بالتنازل عن المصلحة إو ترك المنصب أو ترك الوظيفة العامة. وفي كل الأحوال عليه اتخاذ كل الإجراءات اللازمة للحيلولة دون وقوع ضرر للمصلحة العامة".

ثم يؤكد القانون ذلك مرة أخرى فيما تنص عليه المادة (11) من عقاب الشخص الخاضع لأحكامه الذي يخالف أحكام المادتين (4 و5) من القانون واللتين تتضمننان حالات لا أفعالا.

نورد بعض هذه الحالات فيما يلي:

1 - حالة امتلاك الشخص (الخاضع للقانون) أي حصة أو نسبة من عمل في أي نشاط، له تعاملات مالية مع جهة عمله (مادة 4/2).

وقد تناولنا هذه الحالة بالتفصيل في هذه الدراسة منذ مقالنا المنشور بتاريخ 25/ 3/ 2018 على صفحات الجريدة "جعلوني مجرما في قانون تعارض المصالح".

2 – ما قررته المادة (11) من قانون حظر التعارض من "إلغاء الإجراء الذي شارك الخاضع للقانون في اتخاذه وما يتبعه من آثار". وسواء كان هذا الإجراء قرارا إداريا أو عقداً إداريا، فان إلغاء الإجراء، معناه أن يعاقب من أفاد بمنفعة مشروعه من القرار أو من العقد ولو لم يكن له أي دور في اتخاذ القرار أو إبرام العقد أو المشاركة فيهما.

وقد يطول العقاب عقود امتياز المرافق العامة، وهي المرافق التي تديرها الدولة بطريق غير مباشر، من خلال هذه العقود التي تعهد بها الدولة إلى شركات ومؤسسات بتقديم خدماتها للمواطنين، والعقد شريعة المتعاقدين، وأخطر ما في هذا النص ما اقترن به من إلغاء ما ترتب على هذا الإجراء من آثار، وأستعيد من الذاكرة أن عقد "خيران" الذي كان محلا لاستجواب، وكان محور الاستجواب هو إلغاء هذا العقد، إلا أنه كان هناك اتفاق بين خبراء المجلس ومستشاريه على أنه لا يجوز إلغاؤه ولو بقانون، عندما لوح بعض الأعضاء بعزمهم على إقرار قانون بإلغاء العقد، وقد تأيد هذا الرأي من المستشار والفقيه الدستوري رئيس المحكمة الدستورية الأسبق الراحل الدكتور عوض المر في مذكرة أعدها في سياق هذا الموضوع، فقد كان من مقتضى إلغاء عقد خيران وما ترتب عليه من آثار أن تُنزع عن المواطنين ملكيتهم في هذا المشروع وهم حسنو النية، وأذكر أيضا التعويضات الكبيرة التي دفعتها الدولة نتيجة إلغاء عقد الداو.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.