كانت معركة الغوطة تشرف على نهايتها، والوحدات التابعة للنظام، التي جهّزتها وساندتها وعززتها القوات الروسية والإيرانية، على وشك تحقيق انتصار كامل: فصائل المعارضة جميعها هُزمت أو تكاد، الحواضن الشعبية لهذه الفصائل التي تمنّعت عن إشهار الولاء للنظام في المراحل السابقة عوقبت ورُحّلت، والتعفيش شمل كل ما له قيمة مادية في المناطق التي سقطت بيد النظام.

إقدام النظام بالتالي على استعمال السلاح الكيماوي في هذا الظرف، مع ما ينتج عنه من إدانة دولية وعرقلة لتحقيق النصر الشامل، يبدو بالتالي كأنه خطأ فادح في الحسابات، بل إن هذا الفعل يبدو متعارضاً مع مصلحة النظام بشكل صارخ، مما يضفي على الرواية الروسية المتدرجة في الأعذار قدراً من الصدقية: يعقل إذاً أن الاعتداء لم يحدث، وإن كان هناك من تسرّب للمادة الكيماوية فقد يكون نتيجة تخزينها لدى فصائل المعارضة وانتشارها جراء القصف، بل قد تكون هذه الفصائل قد تعمدت استعمال السلاح النووي واستهدفت حاضنتها بنفسها لشحذ التعاطف العالمي.

Ad

سجل استبدادي

غير أن القراءة المتأنية لتاريخ النظام في سورية وسجله الاستبدادي الطويل تؤكّد أنّه هو بالفعل من ارتكب جريمة الهجوم الكيماوي، ولكن ليس لأغراض عسكرية، بل إن هذا الاعتداء جاء في إطار سعي النظام إلى إحياء المعادلة الوحيدة التي من شأنها أن تحقق له البقاء: تيئيس المواطن السوري.

فكما كانت الحال في مرات سابقة عديدة، صاحب هذا الاعتداء تداول أشرطة مرئية تظهر الفظائع، بما في ذلك الأطفال والرضّع وهم يستميتون للتنفس، عبرها تصل الرسالة واضحة لعموم السوريين: نقتلكم، ونعذبكم، ونجعل أطفالكم يذوقون المرّ، وليس لكم من ملاذٍ من الجحيم هذا، لكم الخضوع إن أردتم تجنب الأذى، وإلا نبيدكم عن بكرة أبيكم!

ولإيصال هذه الرسالة يعتمد النظام على منظومة من أربعة مستويات: في المستوى الأعلى يطفح إعلام النظام وبياناته بالاستهجان والغضب، عند كل اتهام باستعمال السلاح الكيماوي، فالمعترضون على هيمنة القوة العظمى يتحفون بأخبار مقاومة النظام للدعاية الغربية الساعية إلى تلطيخ سمعته، بينما المعادون للتوجهات الإسلامية أو حتى للإسلام نفسه مدعوون للتعاطف مع هذا النظام الزاعم للعلمانية بوجه الانحطاط الإسلامي السياسي أو الديني.

إنتاج إعلامي

أما المستوى الثاني فهو الإنتاج الإعلامي الأصلي الموجه للجمهور المحلي، ويجري عبره تأصيل السلوك المرتقب إزاء النظام ورأسه، فالغلو في التبجيل والخضوع هنا مقبول، بل مرغوب فيه، فتتوالى مشاهد الاستذلال والتسابق إلى حطّ قدر الذات والآخرين في إشهار الولاء للقائد.

كان على سكان الغوطة العطشى، بعد تحمّلهم حصاراً قاسياً وقصفاً قاتلاً شتّت شملهم، الهتافُ بفداء رأس النظام بالروح والدم على شاشات إعلام النظام المرئي كشرطٍ أساسي للحصول على قدر قليل من المياه، والبرنامج الإعلامي للنظام برمتّه مجموعة متبدلة من الصور المشابهة لهذا المشهد؛ بعضها دقيق خفي، وبعضها الآخر فجّ وقح، إلا أنها برمّتها تفيد بأنّ القيادة قديرة على كل شيء وحاضرةٌ في كل مكان، وأن الولاء والطاعة لها فرض واجب في كلّ حين.

والفعالية القصوى للمستوى الثاني لا تتحقّق إلا عبر تفعيل المستوى الثالث الذي يعتمد على وسائط التواصل الاجتماعي كوسيلة للنشر، وفي هذه الوسائط يجري تبادل المقاطع المرئية التي تتغنّى بالإهانة والتعذيب والقتل، كمظهر لمصدر قوة النظام الأساسية، أي قدرته على الترويع، فمن المقطع الذي شاع رواجه لجندي سوري يضرب الأسرى ويدعس على وجوههم قائلاً: «تطالبون بالحرية؟ خذوا الحرية!»، إلى الأشرطة المأساوية التي تنقل حالات اعتداءات جنسية وإعدامات لا تقل فظاعةً عن تلك التي ارتكبها تنظيم «الدولة الإسلامية»، أما التعليقات في صفوف مؤيدي النظام لهذه المقاطع فهو الترحيب والقبول والفرح، بهدف إشاعة اليأس في صفوف معارضي النظام، ومع تواصل الإساءات والجرائم التي يرتكبها النظام، فإن سيل هذه المقاطع مستمرّ دون توقف.

التضييق على المعارضين

أما المستوى الرابع فهو مجموع رسائل التواصل الاجتماعي، التلقائية منها أو المصطنعة أو المدفوعة، التي من شأنها تأكيد فعالية المستويات السابقة والحفاظ على سيطرة النظام على خطابات الفضاء الافتراضي، والهدف هنا طبعاً هو التضييق على كلّ معارض، عبر الشتائم والتهديدات لردع أي خروج عن الطاعة أو تحدٍ للمواقف التي تشيعها السلطة.

فوفق حسابات النظام، ومعه أربابه الروس والإيرانيون، ليس الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، راغباً البتة في الانزلاق إلى تورّط واسع من شأنه زعزعة استقرار تكتيك الحرب السورية، أي أن واشنطن غير مستعدّة لتورّطٍ جديّ في سورية، إذ لا شكّ في أنّ الضربة الأميركية من شأنها إلحاق الخسائر بمقومات النظام العسكرية، لكن التعويل المتزايد لهذا النظام على الموارد الروسية، التي لن يمسها أي ضرر، يجعل الخسارة المرتقبة ثمناً مقبولاً ليتمكّن النظام من ترسيخ بقاء حكمه الترويعي.

وواقع الحال هو أنّ أي ضربة لا تقتل النظام تزيده قوةً، ومهما كان حجم الضربة، ما لم تتزامن مع رؤيةٍ واضحة لإطاحة النظام الاستبدادي، من شأنها تعزيز موقف الأخير ووجهة نظره المؤمنة بأنّ العالم غير مبالٍ وغير راغبٍ في التورط، ولن يقدم إلا على خطواتٍ رمزية لا جدوى منها، ولا تخدم إلا مصالح من قام بها، وعندها لا يبقى للسوري إلا الخضوع لأوامر قاتله.

* حسن منيمنة