بدءاً من العصور القديمة، ومروراً بنظريات فرويد، ووصولاً إلى علم الأعصاب الحديث، كثيراً ما شكّلت الأحلام لغزاً يثير اهتمام الباحثين والحالمين على حد سواء. ما هي المعاني التي يحملها الحلم وأية رسائل يستطيع نقلها؟ رحلة في عالم تفسير الأحلام...مع ظهور الفكر المنطقي والمنهج الديكارتي، اعتُبر الحلم طوال عقود شكلاً من الهذيان أو الهلوسة. لكن سرعان ما ظهر فرويد في عام 1900 وأعاد إليه اعتباره. بالنسبة إلى أبي التحليل النفسي، يشكِّل الحلم «الطريق الملكي للوصول إلى اللاوعي»، ما يعني أنه أشبه بطريق سريع يسمح لنا ببلوغ أصدق كيان فينا.

أصرّ فرويد على اعتبار الحلم انعكاساً لرغباتنا الأساسية، وكان يجب أن يجيد الشخص تحليلها كي يصبح محللاً نفسياً، بحسب رأيه. بسبب نظرية فرويد، خسرت الأحلام مكانتها السابقة كوسيلة لنقل الرسائل الماورائية واكتسبت صفة «أنانية»، وأصبحت انعكاساً للثقافة الفردية بكل أساطيرها وتقاليدها.

عام 1912، عمد كارل غوستاف جونغ، تلميذ فرويد المجتهد، إلى التعمق في الموضوع بدرجة إضافية. فشرح في أحد كتبه أن الأحلام تشتق من «اللاوعي الجماعي» المشترك بين البشر.

Ad

في حين كان فرويد يُعتبر سيّد عالم الأحلام بلا منازع في نهاية الخمسينيات، أحدث ميشال جوفيه، أستاذ في علم الأحياء العصبي، ثورة كبرى في طريقة فهمنا الأحلام من خلال اكتشاف مرحلة «حركة العين السريعة»: تترافق هذه المرحلة من العمل الدماغي مع شلّ الجسم ونشاط الدماغ بدرجة فائقة.

بفضل هذه المقاربة الجديدة، لم تعد الصور الغريبة مجرّد تعبير مُقنّع عن الرغبات اللاواعية. بالنسبة إلى علماء الأعصاب، أصبحت تلك المشاهد الغريبة أو السعيدة أو المقلقة التي تظهر خلال الأحلام تجسيداً سريالياً للمصاعب التي نحتاج إلى معالجتها في حياتنا اليومية. لذا يحمل 70% من الأحلام طابعاً مقلقاً، ما يعني أننا نستعمل الحلم لتجاوز المصاعب والمضي قدماً.

وسيلة لتنظيم الأفكار

بالنسبة إلى علماء الأعصاب يُعتبر الحلم «برنامجاً فردياً»، ما يعني أنه محاولة لإعادة التعمق في هويتنا الحقيقية من خلال استيعاب العناصر المتفاوتة التي تشكّل «الأنا» العليا على مر الليالي المتلاحقة. استوحى الطبيب النفسي جاك مونتانجيرو أفكاره من هذا التيار الفكري لتعريف الحلم كتدريب للإبداع ودليل لمساعدتنا على تنظيم أفكارنا والحفاظ على توازننا العاطفي. تخبرنا الأحلام إذاً إلى أين وصلنا في حياتنا. من ثم، ربما نحتاج إلى التنبه لها لفهم الذات والتصرف بالشكل المناسب في الحياة الواقعية، وكأننا نستعد خلال الليل ليوم الغد.

أثبت بعض خبراء النوم هذا الجانب من وظائف الحلم عبر إجراء دراسة على أشخاص كانوا يستعدون للمشاركة في اختبار الدخول إلى كلية الطب. كان يجب أن يروي هؤلاء الطلاب الأحلام التي راودتهم في الليلة السابقة، وأن يذكروا إذا كانوا حلموا بالاختبار المرتقب. استنتج الباحثون أن أول عشرة طلاب من تلك الدفعة شاهدوا كوابيس مريعة حول تأخرهم في الوصول إلى الامتحان أو تقديمهم ورقة بيضاء. كذلك لوحظ أن 92% من الطلاب الذين قُبِلوا في الكلية كانوا حلموا بأنهم لم يستيقظوا في الوقت المناسب، أو تأخرت وسيلة نقلهم في الوصول، أو لم تكن أسئلة الامتحان واضحة. إزاء هذه الملاحظات، طُرحت فرضية مفادها أن الدماغ يستبق المواقف الخطيرة أو المحرجة خلال النوم، ويبحث عن حلول لتجنبها. كانت نظرية قديمة تصبّ في الإطار نفسه على اعتبار أن الروح تنذر بالحوادث المرتقبة من خلال الأحلام كي يتمكن الناس من الاستعداد لما ينتظرهم. هل يجب أن نضع حداً للتفسيرات النفسية للأحلام إذاً؟ لا يوصي علماء الأعصاب بذلك!

تعاون علم الأعصاب والتحليل النفسي لفك الشيفرة

ربما تكشف تقنيات تصوير الدماغ يوماً محتوى أحلامنا. بانتظار حصول ذلك، سيبقى التحليل النفسي ضرورياً لفهمها. ما رأي علماء الأعصاب؟

ما سبب اهتمام علماء الأعصاب بالأحلام؟

لم يكن اهتمام هذا العلم بالأحلام بديهياً لأنها تحمل جانباً غريباً وفنياً ولا تتماشى هذه الأجواء مع قطاع العلوم. مع ذلك يشكّل الحلم محور دراسات يطلقها علماء الأعصاب نظراً إلى دوره النشيط في تحسين طريقة فهمنا الحياة النفسية ووظيفتها. في الأصل كانت المشكلة الأساسية تتعلق بتحديد طريقة تسجيل النشاط الدماغي أثناء الحلم لأننا لم نكن نعرف توقيت نشوء هذه الظاهرة. لكن تغيّر الوضع جذرياً حين ظنّ الباحثون أنهم وجدوا مؤشرات عصبية وفيزيولوجية خلال «حركة العين السريعة»، أي آخر مرحلة من دورة النوم. لتحليل محتوى الأحلام وآلياتها، كان يكفي إذاً أن يسجّل العلماء نشاط الدماغ خلال تلك المرحلة تحديداً. لكننا نعرف اليوم أن هذه الظاهرة قد تتكرر في جميع مراحل النوم. من ثم، لم تعد تلك الفرضية الأولية مبررة. هكذا لا يمكن أن يحدد العلماء توقيت نشوء الأحلام بدقة استناداً إلى تلك التسجيلات. يجب أن يتجاوزوا هذا التحدي!

ما محور البحوث الحاصلة إذاً؟

لم يفهم العلماء بعد ما يفعله الدماغ كي ينتج مجموعة من الأفكار المتشابهة، أي الأحلام، خلال مرحلة النوم البطيء وحركة العين السريعة، رغم مروره بحالات مختلفة جداً. مع ذلك، يمكن القيام باكتشافات أخرى في هذا المجال. اكتشف الباحثون في الفترة الأخيرة أن الحلم يميل إلى تخفيف القوة العاطفية للحقائق التي نعيشها على أرض الواقع. إذا واجهنا مثلاً فشلاً ذريعاً وبدأنا نعيشه مجدداً أثناء النوم، سيتراجع الألم الذي نشعر به في حياتنا اليومية بسبب تلك التجربة الصعبة. ينطبق المبدأ نفسه على الأمور الإيجابية. توحي هذه النتائج بأن النشاط المرتبط بالأحلام يشارك في تنظيم العواطف المتعلقة بحياتنا النفسية.

هل ما زلنا بعيدين عن مشاهدة أحلام الناس في الوقت الحقيقي؟

لا يزال هذا الهدف بعيد المنال مع أن بعض التجارب الراهنة يجعلنا نتوقع تحقيق ذلك الهدف في أحد الأيام. تمكّن باحثون يابانيون مثلاً من استعمال المناطق النشيطة في الدماغ خلال النوم لمعرفة ما إذا كانت أحلام المشاركين في دراساتهم تتضمن أغراضاً جامدة بدل الأشخاص أو العكس. إنها مجرّد بداية لكنها تبقى نتيجة مبهرة.

كيف يفسّر علم الأعصاب الأحلام؟

هذا هو فحوى المشكلة! حتى لو تمكّنا من استخراج صورة الحلم من النائم انطلاقاً من نشاطه الدماغي، ما الذي سنفعله حينها؟ يجب أن نجمع خليطاً من صور ومعلومات مختلفة على صلة بذلك الشخص. إذا لم نعرف مثلاً أن تلك السيارة التي يشاهدها في حلمه تعود إلى جدّه، أو أنّ لون الجدار الأخضر يشبه لون غرفته، لا يمكننا أن نفعل شيئاً. لن يكون عمل علماء الأعصاب وحده كافياً. ثمة تكامل معيّن بين أفكار التحليل النفسي وبين الفرضيات التي يطرحها علماء الأعصاب. ما من تناقض بين اكتشافاتهم ومؤلفات فرويد. من ثم، يجب أن يترسخ التعاون بين علم الأعصاب وبين علم النفس التجريبي والتحليل النفسي كي نتمكن من إحراز تقدّم حقيقي في طريقة فهمنا وظيفة الأحلام ودور الحياة النفسية في هذا المجال.

آلة لحل المشاكل؟

تكشف الأحلام رسائل داخلية تحاول التعبير عن نفسها. ما رأي علم النفس بالموضوع؟

ما معنى الذكاء المرتبط بالأحلام؟

يستمدّ الحلم موارده من مخزون غير محدود لا يرتبط حصراً بـ{الأنا» الداخلية، أي تلك الفسحة الصغيرة التي تكلّم عنها فرويد. بل يتعلق أيضاً بالذات الإدراكية التي تمتد على نطاق أوسع وتشمل الذاكرة التاريخية المرتبطة بالتاريخ الشخصي والعائلي للحالم ونظرته إلى الحوادث الحاصلة وحياته النفسية الداخلية وجسمه (الجروح الصغيرة، ومسار الهضم...). الأحلام أشبه بسلك يربطنا بحقيقة وجودنا، ويشبه ذلك الخط العمودي الذي يتبعه النائم ويشير إلى المراحل العميقة التي يمر بها أثناء النوم. يتمتع الحلم طبيعياً بالقدرة على إرجاعنا إلى عمر العشر سنوات أو 15 سنة أو 40 سنة... حتى أنه يستطيع في بعض الحالات أن يتوقع الحوادث المقبلة أو يغوص في الذاكرة العائلية أو الجماعية التي يعجز الوعي عن الوصول إليها.

يحلم جميع الناس، وحتى الحيوانات، لكن يتميز البشر بقدرتهم على التعبير عن أحلامهم شفهياً، ما يعني أن اللغة تضاف إلى الذكاء المرتبط بالأحلام. كذلك يتخذ الحلم عند سرد تفاصيله منحىً آخر لأن كلامنا يعجّ بتعابير تكشف معاني عن الصور التي تمرّ في عقلنا.

ما أهمية تركيز المرضى على أحلامهم؟

إنها عملية ضرورية لأن التحليلات التي تشمل الأحلام تجري بوتيرة أسرع وأعمق من العادة نظراً إلى قدرة الحلم على اختراق طبقات اللاوعي في مختلف الأوقات. يكفي أحياناً أن يطلب المعالِج من المريض أن يتذكر أحلامه كي يعطي العلاج مفعوله بطريقة شبه سحرية! لكن في حالات أخرى، يكفي أن يدوّن الشخص ثلاث كلمات في مذكّرة صغيرة لبناء تفاصيل الحلم وإعادة إحيائه في أوقات اليقظة. يمكن تحديد معالم الحلم أيضاً من خلال الاعتياد على سرد أحداثه لشخص آخر. لكن هذه التجربة ليست شبيهة بكتابة الحلم لأن التجربة الأولى تشمل طرفاً آخر بينما تقتصر التجربة الثانية على كشف خبايا الحلم أمام الذات دون سواها. على صعيد آخر، يعزز بعض الحوادث المحددة ظهور تلك الأحلام مجدداً، من بينها تغيير مكان الإقامة أو السفر أو الوقوع في الحب... كلما تقع تقلبات جذرية في الحياة الواقعية، تخترق الأحلام جدار الرقابة وتطلق العنان لنفسها. من الملاحظ أن كل ما يختلف عن العادات الراسخة يميل إلى الظهور في الأحلام. ينطبق المبدأ نفسه على كل عامل من شأنه أن يفتح قناتنا الداخلية. تتعدد تلك العوامل المؤثرة، أبرزها التأمل والكتابة. ينجح بعض المرضى في تذكّر أحلامهم بعد فترة من «الشلل» الفكري من خلال الاعتياد على كتابة صفحة في صباح كل يوم حيث يذكرون كل ما يخطر على بالهم. حتى أنهم يكتبون أحياناً الكلمة نفسها على طول الصفحة.

هل يمكن اعتبار الحلم لغزاً حقيقياً؟

الحلم لغز بطبقات متعددة، ولا يمكن حلّه بطريقة واحدة. لا يزال الغموض سيّد الموقف في هذا المجال، لكن يبقى بعض التفسيرات مفيداً أحياناً ويسمح لنا باكتشاف حقيقة معينة. يمكن أن نشعر بها في جسمنا وفي نفسيتنا وفي الراحة الفورية التي يضمنها الحلم. في بعض الحالات، يكفي أن ندوّن تفاصيل الأحلام التي تراودنا أو نخبرها لشخص آخر كي نفتح ذلك الباب القائم بين الوعي واللاوعي. تعجّ ألغاز الأحلام بالعوامل كافة التي يمكن التفكير بها: الرموز، والصور، واللغة، والأصوات، والعواطف (غضب، وخوف، وحزن...). في معظم الأوقات، يأتي الحلم ليدعم التحليلات الحاصلة، أو يمكن أن يناقضها ويقودنا إلى مسار مختلف بالكامل. في لحظات مماثلة، تنشأ صورة أو فرضية أو حادثة تدفعنا إلى التفكير بمؤشرات مفيدة، وسرعان ما تتلاحق الأدلة التي توصلنا إلى النتائج المنشودة.

هل تحمل الرموز معنىً موحداً؟

يمكن أن تكون ركائز تفسير الأحلام مبسّطة لكنها ليست خاطئة. كيف يمكن ألا يتأثر الشخص الذي يستعمل اللغة منذ ولادته بتاريخ الرموز؟ يتجاوز معناها كل شخص منا. يصبّ كل عنصر من الحلم (بحر، وغابة...) في مخيّلة مشتركة لكن تتلوّن تلك الرموز طبعاً بحسب قصة كل شخص. ربما تحمل المؤشرات أحياناً معنىً واسعاً. على سبيل المثال، تشير الأرقام التي تظهر في الحلم إلى معانٍ مبطّنة أو رسائل سرية أو مراحل عمرية معينة في الحياة. لكن تبقى دقة اللاوعي مبهرة لأن رسالته ليست مبهمة بأي شكل. لا يمكن اكتشاف تلك الرسائل في بعض الحالات، لكن يمكن تأكيد أن الرقم الذي يظهر في الحلم يحمل معنىً دقيقاً.

هل نفهم حقيقتنا عن طريق الحلم؟

ممكن، لأن الحلم يستطيع أن يعبّر عن ازدواجيتنا: ربما لا نعرف مثلاً أننا منفعلون أو متعبون دوماً، لكننا نستطيع تأكيد شعورنا بالغضب. يأتي الحلم وينظم ذلك الغضب بأشكال متنوعة (شخصيات خطيرة، وحيوانات مفترسة، ومعارك...). نخطئ في تحديد رغباتنا غالباً: خلال النوبات العصبية الاعتيادية، ربما نظن أننا نريد شيئاً معيناً لكن يمنعنا الآخرون من تحقيق هدفنا أو تقف الحياة في طريقنا. نستعمل هذه العقلية كحجّة لإيجاد منافع ثانوية للوضع القائم. ينشأ الحلم لنقل هذه الرسالة إلينا: يضعنا مثلاً في موقف لا نريد عيشه مطلقاً، ثم يكشف ازدواجيتنا بكل وضوح حين نرفض تقبّل الرسالة التي يريد نقلها إلينا. نتيجةً لذلك، سيعود إلى الظهور بالشكل نفسه أو بشكل مختلف إلى أن نصغي إليه أو نصرّ على رفضه! لذا يُعتبر الحلم المتكرر مهماً في الحالات كافة.

كيف تحررنا الأحلام؟

يسمح الحلم بإبقاء الجسر القائم بين الوعي واللاوعي مفتوحاً على حلول غير متوقعة. نمضي حياتنا ونحن نخفي أفكارنا المقلقة وذكرياتنا الحزينة والحوادث التي لا تتماشى مع الصورة التي يحملها الآخرون عنا، أي مع «الأنا» المثالية. لكن يتعلق أحد أهداف الحلم، وحتى الكابوس، بإعادة إحياء تلك الذكريات الدفينة وإجبارنا على تقييم الجوانب السلبية بدل إقصائها. حتى لو استيقظنا ونحن نشعر بالانزعاج بسبب حلم «سيئ»، تبقى التجربة إيجابية لأن تلك الصور تحمل معاني رمزية. بالتالي يسمح الحلم بتجنب بعض التصرفات أو الأمراض أو الحوادث. في المقابل ربما تقع الأمور السلبية إذا قررنا ألا نسمع الرسائل التي يوجّهها اللاوعي. يهدف الحلم أيضاً إلى تقبّل السلبيات واعتبارها جزءاً منا. عندما نرفض أفكاراً معينة، يتولى الحلم تنقيتها وغربلتها، فيصبح أشبه بآلة لحل المشاكل. وحين نصغي إليه، نشعر بتحرر تام.

ناديا (42 عاماً، مندوبة أدوية): «فهمتُ ضرورة أن أرفع دعوى»

«حين أعيد التفكير في ذلك الحلم، أصاب بقشعريرة في كل مرة: أقف فيه فوق جسر قديم وصلب وتقع ورائي مدينة تستفحل فيها الحرب وتخلو من مظاهر الحياة. لا نرى فيها إلا النار والدم وتفوح هناك رائحة الحرائق. أشعر بأن الخوف يشلّني وأن جسمي بدأ يتجمّد، ومع ذلك يجب أن أتقدم. تقترب مني ببطء مجموعة من النساء يرتدين ملابس باللون الأسود. لا أستطيع رؤية وجوههنّ بل أشاهد بكل بساطة الأغراض التي يلتقِطْنَها بحذر شديد: قطع وأقراط ذهبية. كلما كنّ يقتربن مني، كان جسمي يتحرك. في وسط الجسر التقيتُهنّ وأعطتني كل امرأة منهنّ قرطاً للأذن من دون التفوه بأية كلمة. كانت على شكل حلقات مدهشة لها طابع شرقي. توجّهن بعد ذلك نحو المدينة المشتعلة، فيما تابعتُ أنا سيري نحو مدينة فخمة ونظيفة فيها مبانٍ مدهشة وشبيهة بمباني باريس. شاهدتُ هناك وشاحاً مُضاءً وأخذتُ بعض الوقت لتأمله، ثم وصلتُ إلى الضفة الثانية...

حين أستيقظ من النوم، أبقى تحت تأثير ذلك الحلم فترة لكني لا أعرف معناه. ولم أفهم حقيقة ما يعنيه قبل أن أتكلم مع طبيبتي النفسية. في تلك الفترة كنت أمرّ باكتئاب قوي: انفتح فجأةً الغطاء الذي أغلقتُه على حادثة الاغتصاب التي تعرّضتُ لها حين كنتُ في عمر الخامسة. عاد كل شيء إلى الواجهة: الصور، والروائح، والاشمئزاز... شعرتُ بأنني خسرتُ أنوثتي وانهارت حياتي الجنسية. لكن حين كشفت لي طبيبتي النفسية أن الحلم الذي يراودني رمزي، وأن أقراط الأذن تشير إلى جنس الإناث، فهمتُ أن الحرب تعني الزلزال الكامن في داخلي وأن الجسر يرمز إلى الطريق الذي يجب أن أقطعه كي أمضي قدماً بعد التراجع الذي عشتُه في الأشهر الأخيرة. نتيجةً لذلك قررتُ أن أرفع دعوى ضد الشخص الذي اعتدى عليّ. استفدتُ من تعاون تلك النساء في الحلم كي أستجمع قوتي وطاقتي وأتخذ خطوة جريئة وأتحرر وأرفع الصوت. بفضل ذلك الحلم، تمكنتُ من استرجاع السيطرة على جسمي وبدأتُ أعيش كامرأة حقيقية في عمر الثامنة والعشرين».

هل الأحلام مؤشرات تحذيرية؟

تتعدد الأدلة على هذه الفكرة، من بينها شهادات حول أحلام دوّنها بعض الألمان قبل الحرب العالمية الثانية. يسمع كل محلل نفسي خلال سنوات عمله أحلاماً تحمل مؤشرات تحذيرية من حوادث وشيكة لكن بدرجات متفاوتة طبعاً. تتعلق تلك المؤشرات بيوم أو سنة أو بشخص أو عائلة كاملة. لكن لا يمكن تفسير هذه الظاهرة حتى الآن. تبقى الأحلام المرتبطة بأشخاص آخرين مقلقة أكثر من غيرها. عموماً، تكون الشخصيات الواردة في الحلم جزءاً منا، لكنها تتعلق أحياناً بالآخرين. ومن المعروف أن الإدراك يحدّ الوعي وأن الجسم يحمل ذكاءً خاصاً به. إذا كان اللاوعي يقع خارج إطار الزمن، ما الذي يمنعه من استعمال وسائل زمنية لا نزال نجهلها؟ ثمة أشخاص يؤكدون أيضاً على أنهم يتابعون التواصل مع أقارب اختفوا منذ فترة طويلة. هل هم متوهمون بكل بساطة؟ في حالات الحداد الصعبة، يبقى الشخص الميت حاضراً في أحلام أقرب الناس إليه قبل أن يتلاشى تدريجاً. لكنه يعود بعد مرور سنوات، بعد انقضاء فترة الحداد الداخلي بالكامل، فيحصل الناس حينها على فرصة توديع الأموات نهائياً.

3 طرائق لفك شيفرة الأحلام

اكتشف رغباتك الحقيقية

بحسب فرويد، أحلام الناس ألغاز تحتاج إلى من يكتشفها. يستعمل الحلم كلمات ضمنية وصوراً مقنّعة لإخفاء رغباتنا اللاواعية. لكن لفهم معناها الحقيقي، يجب أن نتخلى عن السيناريوهات الخيالية أو السخيفة التي تنشأ خلال نومنا. ربما يتخذ انجذابنا القوي إلى شخص «مُحرّم» علينا شكلاً مناقضاً في الحلم فيتمثل بشعور النفور. كذلك يظهر كرهنا المكبوت لشخص معيّن على شكل عاطفة في الحلم. حدّد فرويد أربعة مفاهيم يستعملها اللاوعي لتركيب الأحلام، ويمكن أن نستفيد منها حتماً حين نحاول تفسيرها.

• تجميع العوامل: يجمع المشهد نفسه عناصر متنوعة لتضليل الحالم وإرضاء رغبات متعددة. على سبيل المثال، ربما ترى نفسك في ملعب مدرسة حيث تتشاجر مع رب عملك الذي يحمل اسم شقيقك الأكبر المتزوج من امرأة لا تتحملها!

• نقل العواطف: لإخفاء الدوافع الحقيقية، ينقل اللاوعي عاطفة النائم بشأن الموضوع الذي يشغله إلى مكانة ثانوية. على سبيل المثال، تستقل الحافلة كي تذهب لرؤية أمك التي تربطك بها علاقة صدامية، ثم تمضي بقية الحلم وأنت تملأ معاملات إدارية معقدة.

• التجسيد غير المباشر: تتخفّى قصة الحلم اللاواعية وراء سيناريو مقبول. يستعمل الحالم كلمات وصوراً على شكل استعارات للتعبير عما يرتبط بالحياة الجنسية.

• الاستفاضة: إنها اللمسات الأخيرة التي تعطي الحلم طابعاً منطقياً ومقبولاً في نظر الشخص الحالم.

تمرين عمليّ:

لتفسير رسائل الأحلام، ابدأ بوضع دفتر وقلم بالقرب من سريرك. حين تستيقظ من النوم، اسمح لعقلك بإطلاق الصور والأصوات والأحاسيس كافة من دون أن تحاول فهمها.

ثم اكتب تفاصيل حلمك، لا سيما الحوادث المهمة والمتكررة، وكأنك تروي فيلماً تشاهده. ركّز بعد ذلك على كل عنصر (كلمة، وصورة) وحاول أن تربط بين العناصر بكل حرية. ستحصل حينها على روابط واضحة بشأن كل عقدة في الحلم.

• حدّد النقاط الشائكة: تتمثل هذه النقاط بروابط صعبة أو مستحيلة وتعطي شعوراً بالانزعاج.

• اعزل المشهد الأخير: يختصر هذا المشهد غالباً رسالة الحلم.

• فسّر الحلم: راجع الروابط التي اكتشفتها واقرأها تزامناً مع إنشاء روابط جديدة (ذكريات، وأفكار، وعواطف). في نهاية هذه المرحلة، ستعرف الرغبة التي ارتكز عليها الحلم، وتتمكن بعدها من إيجاد طريقة للاستفادة منها في حياتك الواعية.

اقبل النصائح

بحسب جونغ، الحلم حليف لنا كونه يستطيع إيصالنا إلى عالمنا الداخلي، ما يعني أنه أشبه بصلة وصل مباشرة بين الوعي الفردي وبين الوعي الجماعي، ويربطنا بالجزء الأساسي من شخصيتنا. تدفعنا الرسائل التي تنقلها الأحلام إلى تحسين علاقتنا مع ذاتنا. وفق هذه الفرضية، تعجّ الأحلام بإشارات ورموز تقدم لنا نصائح واقتراحات لإحداث تغيير حقيقي في حياتنا. كي ندرك العوامل التي تعوق تطورنا الداخلي، يطرح الحلم بطرائق متنوعة مخاطر تهددنا أو مواقف تأسرنا، لا سيما في الكوابيس.

تمرين عمليّ:

دوّن أحلامك في دفتر، وارسم خطاً تحت العناصر البارزة: شخصيات، ومشاهد، وصور، وعواطف قوية أو مضطربة... تلك المواقف أو الصور أشبه بدعوة إلى إحداث تغيير فعلي أو تعديل مسارك أو إدراك التحولات الحاصلة في حياتك.

انفتِحْ على الرسائل الكونية

بالنسبة إلى علم النفس العابر للشخصية، تقودنا أحلامنا إلى وقائع أخرى. يجمع هذا الشكل من علم النفس بين الاكتشافات التي حققتها مختلف التيارات النفسية وبين تلك التي ترتبط بالتقاليد الروحية وتهتم بحالات الوعي المتبدلة التي تستطيع أن ترجعنا إلى حياتنا السابقة، أو تقودنا إلى عالم الأرواح. لبلوغ هذه المرحلة من الأحلام، طبّق الخطوات التالية:

• صف سياق أحلامك.

• عبّر عن العواطف التي ترتبط بها عبر تدوين تفاصيلها خطياً.

• استكشف مختلف الأحاسيس المشتقة من الأصوات والصور والحوادث في الحلم، وما يوازيها على أرض الواقع.

• نشّط طاقة الأشخاص في حلمك واسألهم عما يريدونه منك.

• استخلص المعنى العام للحلم وتساءل عن الرسالة التي يريد نقلها وتقبّل الاستنتاج النهائي من دون إصدار أحكام مسبقة.