تتمتع المجتمعات العراقية بتركيبتها التاريخية المعقدة بمزايا فريدة لا تشبه أيا من المجتمعات الأخرى في الشرق الأوسط، وقد أشار الكثير من علماء الاجتماع العراقيين وغير العراقيين إلى ذلك، وبينوا صعوبة فهم الإنسان العراقي لأول وهلة من دون التعمق في أبعاده التاريخية والنفسية، فالمجتمع السني في العراق يختلف عن المجتمعات السنية الأخرى في البلدان العربية، من ناحية حسه القومي المرتفع، فتراه إسلاميا متطرفا في إسلاميته أو منتميا إلى أحد الأحزاب الإسلامية، لكنه مع ذلك يحمل فكرا قوميا متعصبا ويدخل مع الشعوب الأخرى مثل الكرد في صراع قومي مرير، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشيعي العراقي، فتجده بحكم قربه من مراقد الأئمة ومسرح الأحداث التاريخية المؤلمة (الكوفة، النجف، كربلاء، السامراء، الكاظمية)، ووقوعه تحت أضواء المراجع العليا المباشرة، أكثر تشددا وتمسكا بطائفته من الشيعة الموجودين في البلدان الأخرى، وأكثر اندفاعا نحو نشر التشيع وتشكيل الميليشيات على أساس طائفي، والأكراد العراقيون أيضا يختلفون عن أقرانهم في إيران وتركيا وسورية ثقافيا وقوميا، فهم يمتلكون مقومات دولة من مؤسسات وبرلمان وحكومة معترف بها داخليا وخارجيا في حين يفتقد الأكراد الآخرون هذه المزايا.

إذاً كل مجتمع من المجتمعات الثلاثة التي يتشكل منها العراق له شخصيته المستقلة وثقافته وطموحه ورؤيته المتباينة للسياسة والدين، لا يمكن ترويضه أو إخضاعه لأيديولوجية الدولة وسياساتها من خلال القوة والقمع بسهولة، وقد حاول "صدام حسين" فرض سلطة "الدولة القومية" وإجبار الشعوب والمجتمعات العراقية على الانصهار في بوتقة الدولة الواحدة والسياسة الواحدة، ومارس كل ما يخطر على قلب بشر من قتل وتنكيل ومقابر جماعية بهدف فرض الأمر الواقع على تلك المكونات والمجتمعات المتباينة، لكنه أخفق ولم يستطع بلوغ هدفه، واستمرت المحاولات على المنوال نفسه من الحكام الجدد لإضفاء حالة الهيمنة على مؤسسات الدولة طابعا شرعيا من خلال تجسيد شعار الأغلبية السياسية أو الوطنية على أرض الواقع بعد أن استحوذوا على الأغلبية البرلمانية (180 مقعداً من مجموع 328 مقعداً).

Ad

ولو أقر هؤلاء ومعهم حكام العراق منذ تأسيسه بحقيقة؛ أن العراق عبارة عن فسيفساء "مجتمعية" لا يسكنه مجتمع واحد ولا شعب واحد، بل مجتمعات وشعوب ذات خصوصيات مختلفة، فلو اعترفوا بهذه الحقيقة لحلت مشاكل كثيرة ما زالت عالقة حتى الآن، ولوضع العراق على الطريق الصحيح.

والإشكالية السياسية الأساسية في العراق تكمن في أن كل مكون من هذه المكونات- الشيعية والسنية بشكل خاص- يرى نفسه أحق وأجدر بقيادة البلاد والعباد دون الآخر، إما بحجة الأكثرية السكانية كما يدّعي الشيعة، وإما بحجة أنهم أهل الحكم والسياسة ولهم تجربة طويلة في إدارة البلاد وبدونهم لا يمكن أن تنجح أي حكومة كالسنّة.

وبين الطرفين "اللدودين" الساعيين إلى الحكم، يبقى الكردي هو الطرف الخاسر دائما، ولم يأخذ منهما غير الظلم والمرارة والقسوة البالغة، ففي تجربة حزب البعث العروبي خرج بالمقابر الجماعية والقصف الكيماوي ومجازر الأنفال، وخرج من تجربة الأحزاب الشيعية بالتجويع والحصار الشديد منذ أربع سنوات عجاف، وما زال الحبل على الجرار!

*كاتب عراقي