لم تنشأ أحزاب الإسلام السياسي المعروفة في العالم العربي، وبخاصة الإخوان المسلمين، في أحضان الفقهاء ورجال الدين والمؤسسات الدينية في مصر خاصة، وأدى المدرسون والمهندسون والأطباء والقانونيون وغيرهم أدوارا أساسية في قيادة الجماعة وتوسعة نفوذها.

ولم تكن الحال على هذا المنوال في ظهور الجماعات الحزبية لدى الشيعة، حيث أسس الفقهاء والمراجع الدينية ورؤساء الحوزات الدينية في إيران والعراق ولبنان وغيرها، وبخاصة في المدن الدينية البارزة مثل قم ومشهد والنجف ومناطق الشيعة في لبنان، هذه الأحزاب وقيادتها، كما هي الحال مع "حزب الله" في إيران ولبنان، و"حزب الدعوة" في العراق والأقطار الخليجية، فكلاهما ارتبط بشدة بالمراجع الدينية الإيرانية والعراقية واللبنانية والخليجية وإن ساهم فيها بالطبع آخرون.

Ad

وبينما وجد الإخوان المسلمون وحزب التحرير والسلفيون وأحزاب إسلامية أخرى أنفسهم مرارا في مواجهة فقهية أو سياسية مع مؤسسة الأزهر وقرارات "الإسلام الرسمي" ارتبطت الجماعات الشيعية عادة بسبب تاريخ تأسيسها ونموها ومصادر دعمها، وبسبب المخاوف المذهبية وواقع الشيعة كأقلية لا تزيد على 10% في العالم الإسلامي، ببعض المراجع والفقهاء والهيئات الشيعية الرسمية بشكل أو بآخر، كما هي الحال مع "السيد حسين فضل الله" و"آية الله الخميني" و"السيد عبدالمحسن الحكيم" و"السيد محمد باقر الصدر" وغيرهم.

وتلاحظ الباحثة الأميركية "لندا ولبريدج" في دراستها للشيعة في الولايات المتحدة التي نعرضها ملخصة للقارئ، أن هناك فرقا مهما بين "حزب الله" و"حزب الدعوة"، وتقول: "إن حركة حزب الله التي تطورت في لبنان وإيران، ترتكز كثيرا على العلماء وفي المقابلات التي أجريتها مع الشيعة اللبنانيين في منطقة ديترويت فإن من يقترنون بحزب الله هم الأكثر احتمالا في اعتبار مرجع التقليد معصوما من الخطأ، وبينوا أنه إذا قال مرجع شيئا فلا بد أن يكون صحيحا، وإذا بدا غريبا أو غير صحيح فإن سبب المشكلة هو سوء الفهم لدى العامة. ويعتقدون أن رجال الدين مؤهلون لقيادة الحكومة في كل الأمور، وأن معرفتهم للشريعة تقدم لهم الإرشاد الكافي".

ونرى في ملاحظة الباحثة الأميركية تأثر عناصر "حزب الله" العميق بفقه المدرسة الإيرانية، ومثل هذا الخضوع الكامل لآراء رجال الدين التقليديين أو الرسميين من قبل حزب الله موضع نقد من "حزب الدعوة" ذي النشأة العراقية النجفية كما ذكرنا. ومن الأمثلة التي توردها الباحثة عن تعارض الحزبين حالة النزاع بين أتباع "حزب الله" و"حزب الدعوة"، حول اتجاه القبلة في الولايات المتحدة!

كان "آية الله الخوئي" مرجع الشيعة الأعلى في زمنه (1899- 1992) وقد بلغ من نفوذ الخوئي المعاصر لآية الله "الخميني"، أن أولئك الذين كانوا يؤيدون الخميني سياسيا كانوا من أتباع ومقلدي "آية الله الخوئي" في الأمور الفقهية في الوقت نفسه، بل لم يكن الشخص المرتبط "بالدعوة" مقلدا بالضرورة لمحمد باقر الصدر، وحتى شقيقة الصدر الناشطة "بنت الهدى"، والتي أعدمت معه عام 1980، كانت مقلدة للخوئي كذلك.

أفتى "السيد أبو القاسم الخوئي" بأن على المؤمنين في الولايات المتحدة أن يتجهوا إلى الجنوب الشرقي أثناء الصلاة باعتبار ذلك أدق اتجاه نحو القبلة، وقد التزم معظم الشيعة في الولايات المتحدة بذلك وأطاع معظمهم فتوى الخوئي، ولكن البعض اعترض!

تقول الباحثة د. ولبريدج: "كان أعضاء "الدعوة" العقلانيين بدرجة عالية والمستقلين هم الذين شككوا في ذلك الرأي، وكان بين أفراد هذه المجموعة مهندسون وعلماء كثيرون قالوا بحزم ووضوح إن المرجع على خطأ، وإن على المرء أن يتخذ اتجاه الشمال الشرقي أثناء الصلاة، وأصر ابن آية الله الخوئي المرحوم محمد تقي، الذي ساعد في تصميم مسجد الخوئي في كوينز في نيويورك، على أن يحدد المحراب في المسجد في اتجاه القبلة مواجها الجنوب الشرقي وفقا لتعاليم والده الجليل. أصر الشيعة الملتزمون بخط حركة الدعوة وبفلسفة فضل الله على أن هذا المحراب ليس في اتجاه القبلة وعندما يقصدون المسجد في كوينز للصلاة يصلون باتجاه الشمال الشرقي في حين يواجه الآخرون الجنوب الشرقي، كانت رسالتهم واضحة: مجال خبرة المرجع لا يمتد إلى الأمور العلمية ولأن رأيه مخالف لرأي العلم فلابد من تجاهله".

ومثل هذا الاختلاف الواسع في تحديد موقع القبلة الذي تشير إليه الباحثة الأميركية لم يكن الأول من نوعه حتى بين أهل السنة في أميركا، وقد قرأت كتاباً بعنوان "المسلمون في أوروبا وأميركا"، من تأليف "علي المنتصر الكتاني" ظهر عام 1976، حيث وضعه المؤلف إثر جولة واسعة قام بها بعد أن قررت رابطة العالم الإسلامي سنة 1393هـ 1973م إرسال وفود لمختلف مناطق العالم لاستقصاء أحوال المسلمين، فتقرر إرسال "الكتاني" الأستاذ بجامعة الظهران بالسعودية مع شخص آخر عام 1973 الى أوروبا وأميركا.

يتحدث "الكتاني" في كتابه عن خلاف جماعتين مهاجرتين إلى دولة "سورينام" بأميركا الجنوبية إحداهما من جزيرة "جاوة" في إندونيسيا وهي تتبع المذهب الشافعي والثانية من مسلمي الهند، وهم بالطبع من الأحناف، حيث للجاويين في "سورينام" مساجدهم وللهنود مساجدهم، ويقول الكتاني: "ومما زاد المشكلة تعقيدا هو أن المساجد الجاوية قبلتها نحو الغرب والمساجد الهندية قبلتها نحو الشرق"، ويضيف "الكتاني" شارحا تماثل القبلتين فيقول: "والحقيقة أنه بسبب المسافة الكبيرة من مكة المكرمة تجوز القبلتان لأن الأرض كروية".

(الجزء الثاني ص180).

لم يتقبل أنصار "حزب الله" أي اعتراض على مرجع التقليد، وتقول الباحثة إن "حزب الله" يرى "أن العلماء يحددون ما هو صحيح أو خطأ، استنادا إلى معرفتهم بالشريعة، على النقيض من ذلك يريد أتباع "فضل الله" تفسيرات ويريدون فكرا علميا منطقياً وسليما، إنهم لا يخشون تحدي العلماء ويصرون على أنهم لا يريدون آراء شيخ محلي بل رأي المرجع نفسه!!

من أين استقى "حزب الدعوة" هذه الروحية الاستقلالية عن آراء المراجع مقارنة بحزب الله؟ تجيب الباحثة: "لقد تأثر بعض مؤسسي "الدعوة" بجماعة الإخوان المسلمين، وهي جماعة أسست في مصر، ولا تستند إلى قاعدة من العلماء بل إن فيها عنصرا مناهضا للعلماء" (ص 97).

تباينت علاقة الأحزاب الدينية الشيعية والسنية في طبيعة الروابط والصلات بالهيئات الدينية، فمثلا تحدث مؤسس حركة الإخوان في رسالة المؤتمر الخامس عن الأزهر باعتباره "معقل الدعوة الإسلامية"، وطالب بأن يعتبر الأزهر دعوة الإخوان دعوته وأن يعد غايتها غايته، وأن تمتلئ الصفوف الإخوانية والأندية الإخوانية بشبابه الناهض وعلمائه الفضلاء ومدرسيه ووعاظه". ولكن وقع الاختلاف!

ويقول د. زكريا بيومي في كتابه المعروف عن الإخوان إنه في الوقت الذي برزت فيه الجماعات الإسلامية وحاولت أن تشق طريقها للتدخل في الشؤون العامة ظل دور الأزهر جامداً، ويضيف "أن جمود علماء الأزهر وعجزهم عن التأثير في الحياة العامة كان من أهم الأسباب التي أدت إلى نشأة الجماعات الإسلامية، كما أن جهود بعض هؤلاء العلماء في التصدي للتيارات المعادية للتيار الإسلامي كانت جهودا فردية في أغلبها ولا تتصل بالأزهر إلا من خلال انتماء هؤلاء العلماء. وأمام ما اعتبره المرشد البنّا "ازدياد موجة الإلحاد" في مصر الثلاثينيات وجه البنا إلى "الشيخ المراغي" شيخ الجامع الأزهر، نداء مطالبا إياه بالتحرك ضد هذه الموجة، كما انتقدت جريدة الإخوان أسلوب الأزهر السياسي، وفي أعقاب وفاة الشيخ المراغي، وقبل تعيين شيخ جديد وجهت صحيفة "جماعة شباب محمد"، التي انشقت لاحقا عن الإخوان هجوما على الأزهر قالت فيه: "إن تهاون الأزهريين وعلى رأسهم كبار علمائهم في أداء واجبهم الديني هو السبب في انهيار الأزهر وضياع مهابته وتطاول الحكام عليه والتدخل في شؤونه"، وإن "علماء الأزهر قد فرطوا في كرامتهم فأحبوا الدنيا وحرصوا على المال والمناصب فسكتوا عن تطبيق الشريعة، وتغاضوا عن انتهاك حرمات الإسلام وأقبلوا على الحكام يستجدون رضاهم".

وحينما تواترت الأنباء عن اختيار الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخا للأزهر هاجمته كذلك جماعة "شباب محمد" وقالت "إن له ماضيا لا يؤهله لذلك المنصب وإن للإنكليز يدا في ترشيحه وإنه سيرتقي هذا المنصب بقوة الحراب الإنكليزية، وإن توليه هذا المنصب هو من علامات الساعة، حيث أسند الأمر لغير أهله". وقام شيخ أزهري وهو "خالد محمد خالد" بإصدار كتابه "من هنا نبدأ" والذي نال شهرة "علي عبدالرازق" في كتابه عن الخلافة "الإسلام وأصول الحكم". وقد تولى الشيخ الأزهري المعروف "محمد الغزالي" الرد عليه في كتابه "من هنا نعلم" إلا أن الشيخ الغزالي كان أكثر هجوما من خالد محمد خالد على الأزهر، فقسم علماء الأزهر إلى "هواة" و"محترفين"، وقال إن ثورة خالد محمد خالد "ليست إلا مأساة لرجل من علماء الأزهر رزق فضل حياة في عقله وضميره، فكانت ثورته الجامحة على الدراسات الميتة والأعمال البليدة والكهانات الفارغة التي كانت السبب في شططه".

ويختتم د. بيومي الحديث عن موقف الإخوان من الأزهر بالقول إن الأزهر خرج خاسرا من المعركة التي دارت بين اثنين من علمائه، وهما الشيخ خالد محمد خالد ومحمد العزالي، وأدى هذا الخلاف إلى قلة إقبال الأزهريين على جماعة الإخوان إذا ما قورن بطلاب الجامعة المصرية. (الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية، د. زكريا سليمان بيومي، القاهرة، 1978، ص261 - 271). ونتابع في المقال القادم تفاوت موقفي حزب الله وحزب الدعوة من الفتاوى وآراء العلماء.