أتحاشى، في الحقيقة، معظم المصطلحات النقدية العربية، لا "الشعرية" وحدها، التي شاعت في العقود الأخيرة (الانشائية، الأسلوبية، الانزياح، البأررة، النسق، التناص... الخ)، حتى إنها لا تجرؤ على أن تقفز سهواً إلى النثر النقدي الذي أكتبه. أتحاشاها، لأنها قسرية، إيهامية، ولا تماس لها مع واقع النص العربي، ولا واقع كاتبه. وهي مخاتلة عن إرادة، أو عمياء عن غفلة. يطيب لها أن تنتسب ادعاءً إلى تيارات النقد الغربي، وهي في الحقيقة تنتسب لموجة محدودة في الزمان والمكان من هذا النقد الغربي، نبتت في باريس، ثم قفزت إلى بعض الجامعات الأميركية، وصارت تُدعى "بنيوية، وما بعد بنيوية"، و"تفكيكية، وما بعد تفكيكية"، أو بالجملة "ما بعد الحداثة". ثم سعت إلى اماتة المؤلف (عند بارت) والإنسان (عند فوكو)، وطاشت، بتطرف لم يشهد تاريخ الأدب له مثيلاً، في إنكار العقل، العلم، المنطق، الموضوعية، المعنى، المعرفة. وكأن النقد الأدبي الغربي، الذي يتمتع بغنى سبق أن عرفنا اليسير منه، قد بدأ معها، وينتهي بانتهائها.

جميع المصطلحات التي تبناها الناقد العربي طلعت من لغة هذه الموجة الغربية المحدودة في تاريخها وجغرافيتها. وهي موجهة إلى لغة هذه الموجة، وإلى حقل المعرفة التي تنتسب لها هذه الموجة، وإلى الحضارة التي تحتضنهما. ولا يمكن أن تمس بطرف السبابة اللغة العربية، ولا إنسان اللغة العربية، ولا حقل معرفتهما المجدب. ولكي يتطابق معها الناقد العربي منذ سبعينيات القرن العشرين، فعليه أن يُميت المؤلف والإنسان، ويُعلن إنكار العقل والمنطق والموضوعية والمعنى والمعرفة. وواضح أن تطابقاً كهذا لا يمكن أن يتم إلا بمعجزة. لكن هذه المعجزة تحققت بيسر، فهذا الناقد العربي اكتشف في العلن أنه يعيش حياة عربية فقيرة، أو تكاد تكون خالية من العقل والعلم والمنطق والموضوعية والمعنى والمعرفة، ينخلها القائد الخالد من فوق، والدين السياسي من تحت. وجد شروط "ما بعد حداثته"، دون جهد، جاهزة على طبق، ووسائل إيصالها متوافرة بدعم وسائل الإعلام والنشر. لكنه يحاول بجهد أن يجعل من هذا الاكتشاف العلني خفياً، يتماشى مع خفاء أساليبه اللغوية السحرية. إنه ضرب من استمناء بالغ الخطورة على صحة الكيان الذي ينصرف كلياً إلى المخيلة الإيهامية.

Ad

النسبة الكبرى من قراء هذا النقد النظري هم مشاريع نقاد داخل الصحافة الثقافية، أو مشاريع مدرسين داخل الجامعة. لذلك، اتسمت كتابةُ الكُتاب وقراءة القراء بالتضخم الثقافي (على قياس التضخم المالي)، دون غطاء من حضارة. لم يعد القارئ متلقياً للمعرفة، بل أصبح "ظاهرة مستقرة في النص، وهو صفحة البياض التي يكتب النص فيها جسده"، على حد قول كمال أبوديب. هذا التضخم الثقافي يتم في اللغة الجديدة، التي يسَّرت على الجميع احتقار المعنى، (يسميه أدونيس "طين المعنى" أو "وحل" المعنى). تضخم ثقافي يتطلب أعلى درجات البلاغة اللفظية: "الشعر هو استبطان لما يمكن من اللاممكن. هو شرود وانفلات من الوقتي نكاية بالعارض الزائل، بل نعتبره مثوى للوجود، ومسكناً له"، "ليس الشعر سوى ذاك الكيف الملبد بالسؤال الأنطولوجي". ويعود أبوديب ليرى "الشعرية": "الحلم الأسمى في عالم الإنسان وذاته، نزوعه الدائب إلى خلق بعد الممكن. وهي قدرة عميقة قادرة على استبطان الإنسان والعالم والطبيعة، وآلهتها، المجتمع وصراعاته، الحضارة وسموها، وعظمتها، الطبقات المسلوبة المستغلة وملحمة صراعها، ضد طبقات... تمسح وجودها بالقسر والقهر والقمع وكل ما في اللغة من قافات وقيافات".

ألا يثير الفزع، تطلع "الشعرية" هذا، الذي يتجاوز ما عرفناه من التطلع اليوتوبي للأمميين والقوميين والإسلاميين السلفيين؟ لا، بل يتجاوز تطلع رولان بارت، الذي يرى شعر الحداثة العجيب: ممارسة ذهنية ولعبة مجانية مليئة بالرعب، لأنه "نزهة على تخوم الهذيان".

كُتاب وقراء "الشعرية" العرب مثيرون للشفقة، لا لأنهم يستطيبون "النزهة على تخوم الهذيان" فقط، بل لأنهم لا يكفّون عن استحضارها من الكتب الغربية، واصطناعها في الوهم، وهي لا حقيقة لها في حياتهم. على العكس، كل هذا يتم تحت وطأة حياة شخصية زاخرة بالنفي، والفقر المادي والعقلي والروحي.