يرى المؤلف الأميركي من أصل لبناني نسيم طالب أن كل الاكتشافات والأحداث التاريخية الرئيسية كانت على وجه التقريب مجرد «بجعة سوداء» وتأتي هذه الأحداث النادرة والمؤثرة للغاية بشكل أساسي على شكل مفاجأة ولكن بمجرد حدوثها فإنها في أغلب الأحيان لا تعامل بعقلانية ملائمة.

وبالنسبة الى طالب فإن الأحداث التاريخية مثل الحرب العالمية الأولى وهجمات الحادي عشر من سبتمبر تشكل نوعاً من هذه الأمثلة عن هذه الظاهرة التي يطلق عليها بتصرف اسم «البجعة السوداء»، وفي رأيه فإن ذلك يفسر بشكل تقريبي كل شيء أعقب تلك الأحداث التي غيرت مسار التاريخ.

Ad

وينسحب الربيع العربي بالتأكيد على ثلاثة معايير تتناول أحداث البجعة السوداء وهي:

سمة المفاجأة والتأثيرات التاريخية والادراك المتأخر المنطقي، وفي المقام الأول كان انطلاقها الذي تسبب به قيام بائع تونسي بإحراق نفسه مفاجأة بالنسبة الى العالم، وكان الاعتقاد أن معظم الدول العربية كانت أكثر استقراراً من البلدان النامية الأخرى، وكان الاستياء وعدم الاستقرار السياسي يقمع من جانب حكومات مستبدة ولم تسهم المؤشرات القياسية التي تستخدم في العادة من أجل رصد الأداء الاقتصادي في احتواء السخط.

وبدلاً من ذلك طرحت صورة ملائمة للتنمية مع معدلات فقر متراجعة ومتدنية وتباين معتدل وزيادة فرص التعليم والخدمات الصحية، وبالنسبة الى معظم المراقبين كانت هشاشة الدول العربية غير جلية على الرغم من تراكم الأخطار الخفية لسنوات عديدة.

وتمثل الجانب الثاني في الانتشار الواسع لتأثيرات الربيع العربي، وفي مصر وليبيا وتونس واليمن أطاحت الثورات بحكومات مطلقة، وأطلقت فترة انتقالية اتسمت بالصعوبة، وفي سورية وليبيا واليمن أسفرت الثورات عن حروب أهلية طويلة وعواقب مدمرة لحقت بالمدنيين، كما أن تداعيات حروب حقبة ما بعد الربيع العربي طالت أيضاً دولاً مجاورة شملت البعض في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومناطق أبعد.

وتمثل المعيار الثالث في ظهور الكثير من التفسيرات بعد أحداث الربيع العربي، وكان أحد تلك التفسيرات يرتبط بالتباين الاقتصادي الحاد وزيادة توقعات جيل الشباب وتهميش الطبقة المتوسطة وارتفاع أسعار الغذاء الى آخر ما هنالك، ولكن نظراً لأننا نعلم أن هذا النوع من الأحداث يعالج في أغلب الأحيان بصورة عقلانية غير ملائمة فإن من الأهمية بمكان أن نسأل عن العوامل التي أفضت حقاً الى اندلاع ثورات الربيع العربي، ومن شأن هذا أن يساعد في إيجاد الدول لطرق ملائمة من أجل التغلب على مشاكلها المتواصلة وتهيئة المسرح لتحقيق السلام والتنمية المستدامة.

تفجر الغضب الشعبي

وركز كتابي الأخير بعنوان «تفجر الغضب الشعبي واقتصادات الربيع العربي وتداعياته» على استبعاد البعض من التفسيرات البديلة، وذلك من خلال استخدام أدلة مبنية على الملاحظة والاختبار، ومن منظور إقليمي استعرضت ملاءمة العوامل الاقتصادية وتطابقها مع رواية الربيع العربي وأحداثه، وعلى أي حال فإن الغاية لم تكن تهدف الى طرح سرد شامل لتلك الأحداث كلها في كل دولة.

وبدلاً من ذلك ركزت على العوامل المشتركة التي تتسم بأهمية بالنسبة إلى درجات مختلفة في كل البلدان وعلى العوامل المؤثرة حقاً على التغير في هذه المنطقة من العالم، وقد استعرضت جانب الطلب واستكشاف الإحباط ومصادر الغضب الشعبي في آن معاً، إضافة إلى جانب العرض وجودة مؤسسات الحوكمة بشأن الأمن.

وكما هو ملائم في حالة الأحداث الحادة والصادمة التي كانت تقدر بأقل من قيمتها في المعلومات الاقتصادية القياسية استخدمت في تحليلي مزيجاً من المعلومات الجديدة أو الأقل استخداماً إضافة إلى طرق حديثة تناسب ذلك التحليل، وتستثني الأدلة المبنية على التجربة والاختبار التباين العالي على شكل أحد أسباب ثورات الربيع العربي. وهي تظهر أيضاً أن المشكلة الحقيقية تمثلت بانهيار العقد الاجتماعي الذي أفضى الى تآكل نوعية الحياة بالنسبة الى الطبقة المتوسطة.

وقد جاهدت هذه الطبقة المتعلمة من فئة الشباب من سكان المدن من أجل العثور على وظائف ملائمة، ولم تكن سعيدة في النوعية الضعيفة في الخدمات العامة، كما أنها شعرت بإحباط من حاجتها الى علاقات مع النخبة القوية من أجل تحقيق مستويات لائقة.

العقد الاجتماعي القديم

العقد الاجتماعي القديم الذي وفر نتيجة تطورات وتنمية في الماضي والذي وفرت الحكومات العربية من خلاله فرص العمل في القطاع العام مقابل لجم الأصوات المعارضة أظهر فشله وعدم جدواه، كما أنه كان غير مستدام على الصعيد المالي، وفي الوقت الذي لم يعد القطاع العام قادراً فيه على القيام بدور رب العمل المناسب لم يولد القطاع الخاص فرص عمل كافية بسبب الاختلالات التي حدت من التضمين الاقتصادي والمنافسة والحوافز، وفرص الاستثمارات الخاصة.

ويضاف إلى ذلك أن انهيار العقد الاجتماعي أدى الى ما يدعى «مفارقة تطور غير سارة»، شملت درجة من الاستياء وعدم الرضا على الرغم من التطور السريع، كما أنه زاد من ثمن الحرية، وخلق حافزاً من أجل تحقيق تغيير سياسي.

وفي أعقاب الربيع العربي أفضت الانقسامات الإقليمية والعرقية والطائفية العميقة في بلدان من دون مؤسسات حوكمة متطورة صالحة لتشاطر السلطة، وحلول نزاعات عادلة أفضت الى إعداد المسرح لموجة عنف سياسي واسعة، كما أن الحروب المستمرة تذكرنا بأن الربيع العربي قد غير بصورة جذرية الأوضاع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وفي الدول التي شهدت عودة الاستقرار كان الربيع العربي جلياً من خلال الاصلاحات التي تمت من أجل تحسين الوضع المالي ومعالجة القضايا الهيكلية التي أفضت الى التراجع الاقتصادي في المقام الأول، وقد أصبح تحسين التنمية والتطوير في القطاع الخاص والتركيز على الجانب الاقتصادي أولوية قصوى بالنسبة الى الحكومات في شتى دول المنطقة.

ولكن على الرغم من ذلك فإن من المهم عدم نسيان حقيقة أن تحسين الشفافية والمساءلة والاستماع الى صوت العامة كان مهماً وأساسياً أيضاً، وقمع حرية التعبير بغية تحقيق الاستقرار يمكن أن يعد المسرح لظهور بجعة سوداء أخرى في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.