تسبب كتاب «إمبراطوريات متخيلة- تاريخ الثورة في صعيد مصر»، للدكتورة زينب أبو المجد، أستاذة التاريخ في جامعة أوبرلين الأميركية، الصادر أخيراً عن «المجلس الأعلى للثقافة»، في صدمتين واسعتين داخل أوساط المثقفين المصريين: الأولى أنهم اكتشفوا أنهم لا يعرفون شيئاً عن تاريخ الحراك الاجتماعي في الصعيد، بسبب الانتشار الواسع للرواية الرسمية المصرية التي تجاهلت الصعيد قروناً طويلة، والثانية أنهم فوجئوا بأن مؤلفة الكتاب الذي انتظرته الأوساط المصرية طويلاً، باحثة صعيدية من محافظة «قنا»، درست التاريخ في أميركا لكن أصولها الاجتماعية علمتها أنها مهما ذهبت بعيداً فإنها ستحمل بلادها دوماً في القلب... «الجريدة» التقت الباحثة في هذا الحوار.

Ad

أحدث كتابك الأخير "إمبراطوريات متخيلة" ردود فعل واسعة لما يحمله من تاريخ مغاير للسائد في مصر. كيف ترين ذلك؟

«إمبراطوريات متخيلة»، في الأصل رسالتي لنيل الدكتوراه عام 2008، من جامعة جورج تاون. صدر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» عام 2013 من جامعة كاليفورنيا، وتُرجم إلى اللغة العربية متطرقاً إلى الـ 500 سنة الأخيرة في تاريخ مصر، بين 1700 ميلادية وثورة 25 يناير 2011.

ردود الفعل حول الكتاب، (أو الصدمة) ربما سببها أن الرواية الرسمية للتاريخ المصري قاهرية الأصل، لا تركز إلا على نخبة القاهرة باعتبارها النخبة الفاعلة. قصة مصر القومية في الرواية الرسمية هي قصة القاهرة وشمال مصر فحسب، فيما الصعيد مهمش تماماً. أما الكتاب فيرصد ثورات المهمشين في الصعيد على مدار القرون الخمسة الماضية في ظل إمبراطوريات مختلفة: الفرنسية خلال الاحتلال الفرنسي لمصر، وإمبراطورية محمد علي، والإمبراطورية البريطانية غير الرسمية قبيل الاحتلال، والإمبراطورية الرسمية بعد الاحتلال البريطاني لمصر، وأخيراً الإمبراطورية الأميركية التي حاولت تغيير البنيتين الاقتصادية والاجتماعية للصعيد لكنها فشلت. والكتاب ركَّز على مناطق قنا والأقصر وإسنا.

انتقد البعض اعتمادك على مصادر غير رسمية كشهادات الرحالة؟

يتحدّث الكتاب عن ثورات لم يذكرها المؤرخ المصري التقليدي، الأولى أثناء حكم محمد علي باشا عام 1820 والتي خرج فيها نحو 40 ألف فلاح، والثانية عام 1864 ضد الخديوي إسماعيل. وفيما أن علي مبارك باشا في كتابه «الخطط التوفيقية» تحدّث عن الثورتين، فإنه اعتبرهما خروجاً على الحاكم وعصياناً له، بشكل مبتذل جداً. إلا أن الإنصاف في الرواية التاريخية لثورة 1864 جاء من رحالة إنكليزية كانت تعيش في الأقصر ووثقت الثورة، وفي الحالتين نزل الجيش من القاهرة وقمع الثوار، وأنا استندت إلى وثائق دار الوثائق القومية وإلى روايات الرحالة الأجانب جنباً إلى جنب.

كيف تقيِّمين البحوث العلمية المتعلقة بالتاريخ في الجامعات المصرية؟

دراسة التاريخ في الأوساط الأكاديمية الأميركية مختلفة تماماً عن مثيلتها المصرية، كذلك كتابته. تجدهما في الأوساط الأكاديمية المصرية تقليديتين ووصفيتين جداً ومتكلستين عموماً، تقفان عند مراحل قديمة في التأريخ، أستاذ التاريخ عندما يكتب أو يحضِّر رسالة ماجستير أو دكتوراه، يكتب كأنه يكتب كتاباً مدرسياً، بشكل وصفي ومبسط جداً، معيداً إنتاج الرواية الرسمية نفسها، تماماً كما كان عبد الرحمن الرافعي مثلاً يفعل أوائل القرن العشرين، رغم أن لدى مصر ميزة نسبية تتمثّل في «دار الوثائق القومية» التي تعد ثروة لا مثيل لها في أي مكان آخر في الشرق الأوسط كله، إلا في العاصمة التركية إسطنبول، والاثنتان تشتملان على أضخم وأكبر الأرشيفات التي يُمكن الاستناد إليها لكتابة تاريخ الشرق الأوسط، حيث تجد ملايين الوثائق التي ترجع إلى العصرين الأيوبي والمملوكي وعصر محمد علي وفترة الاستعمار البريطاني. ولكن المؤرخ المصري يتعامل معها بشكل تقليدي ووصفي جداً، فيجمع الحكايات إلى جانب بعضها البعض، من دون نقد أو تحليل. وفي النهاية، يلتزم بالقصة الوطنية الرسمية الموجودة في مصر منذ مئة عام، ويدخل الأرشيف ليعيد إنتاجها ذاتها بكل أسف.

محاباة السلطان

ثمة اتهامات للكتابة التاريخية الراهنة بمحاباة السلطان ومعاداة قوى المجتمع؟    

رغم بعض الأكاديميين الذين يحابون السلطان، سواء في التاريخ أو العلوم السياسية، وهو أمر موجود في كل عصر، فإن خلال العشرين عاماً الماضية خرج عدد كبير من المؤرخين المصريين عن الرواية الرسمية في كتابة التاريخ، وأعادوا الاعتبار إلى التاريخ الاجتماعي وكتبوا عن تاريخ المهمشين والفلاحين والعمال والطبقات الدنيا، وأبرز هؤلاء الدكتور سعيد العشماوي باهتمامه بتاريخ الفلاحين والعمال، والدكتور شريف يونس الذي اهتم بالشعب مقابل الدولة.

هل لا تزال نظرة الغرب إلى إفريقيا والعرب والشرق عموماً عند كتابة التاريخ مشوهة؟

الغرب ليس كتلة فكرية واحدة متجانسة، فثمة خطاب إعلامي وخطاب شعبي وخطاب أكاديمي. الأخير متطور جداً في دراسات الشرق الأوسط، وشهد نقلة كبيرة عقب كتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد «الاستشراق» الذي نشر عام 1978، ومنذ ذلك التاريخ حدثت ثورة في الأوساط الأكاديمية الغربية الأوروبية والأميركية في ما يتعلق بدراسة تاريخ الشرق الأوسط، إذ نُزعت التصورات الاستشراقية التقليدية عن أن شعب الشرق متخلف وبربري وهمجي، وأعيدت كتابة التاريخ بشكل أنصف الشرق الأوسط. مثلاً، نجد مؤرخين أوروبيين يدرسون التاريخ العثماني ويعيدون إنصافه، والتاريخ العثماني ليس أسطنبول ولكن مصر والجزائر والعراق وسورية ولبنان. كانت هذه البلاد جزءاً من الدولة العثمانية وأسهمت في تشكيلها.

هل تحمل الدراسات الأكاديمية الغربية حول «القدس» إنصافاً؟

ثمة توجهات متنوعة. الوسط الأكاديمي كأي حقل فكري آخر، تؤثِّر فيه التوجهات السياسية. ثمة مؤرخون متحيزون للعرب وللمسلمين، وعندما يكتبون تاريخ القدس العثمانية أو المملوكية أو خلال فترة الاستعمار البريطاني ينحازون إلى الفلسطينيين، وثمة مؤرخون متحيزون أكثر إلى الصهيونية أو لهم جذور فكرية صهيونية فيكتبون بمنظورهم.

عموماً، تتنازع حقل التاريخ التوجهات السياسية ولا يُشترط أن يكون التاريخ موضوعياً طوال الوقت.

كيف تقسمين التاريخ المصري من وجهة نظرك؟

لا يصح تقسيم التاريخ لأن كل فترة تغذي الأخرى. أما المؤرخ التقليدي فليس لديه مشكلة في تقسيم المراحل سواء فرعونية أو عثمانية أو مملوكية، فيما المؤرخ المعاصر الذي ينجز مراجعات نقدية يطرح إشكالية peridization أو تقسيم المراحل، وهذا هو الوضع في الأكاديمية الغربية. فالتاريخ لا يسير بخطوط فاصلة، أي انتهى المملوكي وبدأ العثماني، بل ثمة مراحل انتقالية مليئة بالإشكاليات والتحولات والتداخلات الاجتماعية والاقتصادية. لذلك من الصعب تقسيم التاريخ إلى مراحل، والاستمرارية دائماً تغلب الانقطاع. ولكن أحياناً نجد انقطاعاً بين مرحلتين، أي ظواهر سياسية واقتصادية وجدت في مرحلة وانقطعت في المرحلة التالية. أشير هنا إلى أن البنيتين الاقتصادية والاجتماعية منذ العصر الاستعماري ومحمد علي وخلفائه استمرتا عقب ثورة 1952، لذا فإن لغة البيروقراطية المصرية الآن هي نفسها اللغة قبيل 1952، لذلك لا يصح أن نقسِّم التاريخ إلى مراحل.

فائدة التاريخ

حول فائدة التاريخ والانشغال به على الساحتين المحلية والعالمية تقول زينب أبو المجد: «التاريخ في أوروبا والولايات المتحدة لا يزال علماً مهماً، يجتذب عدداً ضخماً من الطلاب، فإذا نظرت إلى إنكلترا تجد أن رؤساء الوزارات في فترة معينة درسوا التاريخ في جامعتي كمبريدج وأكسفورد، ولفترات طويلة ظل علم التاريخ مفرخة لإنتاج السياسيين، كذلك لا يزال علم التاريخ مهماً في الولايات المتحدة».