في حديث سابق عن زيارة مراكش كتبت: "الشوارع في المدينة القديمة تتسع بسحر الخيال إلى كل الجهات، لأن الزنقات، والجدران، وأبواب البيوت، ومحلات التجار والحرفيين، تخفي سراً، لا يكف عن دعوتك إلى العبور. وكثيراً ما تعبر، فتجد ما لم تتوقعه". هذا هاجس عربي المشرق لديّ، الذي يجهل الطبيعة التي تطوي عربي المغرب؛ فرداً، مجتمعاً ومدينة.

الرواية التي أصدرها ياسين عدنان (كاتب وإعلامي) بعنوان "هوت ماروك" كانت دليلي في هذا العبور إلى أسرار المدينة الخفية، التي بدت بصحبته، على غرائبيتها، ليست ببعيدة الشبه عن مدينتي، التي أعرف، رغم المنفى الطويل. الفارق بين محاولة ياسين عدنان ومحاولة الروائي العراقي، أن الأخير لا يجرؤ على عرض فساد القاعدة، بمقدار استعداده لعرض فساد مؤسسة الحكم. حاول عالم الاجتماع علي الوردي ذلك، لأنه بدأ من القاعدة في الشارع العراقي، ثم ارتقى إلى تنظيماته وإدارته ونظامه. لكن علي الوردي لم يكن روائياً. هذه واحدة من فضائل هذه الرواية.

Ad

في مطلع الرواية أتعرف على "وفيق الدرعي"، شاعر محتفٍ بنفسه وبالحياة، بفعل احتياله. وأتعرف على "رحّال العوينة"، بطل الرواية، العاجز عن الاحتفاء بنفسه وبالحياة، لكنه لا يقل عن غريمه احتيالا. وبقدر ما كان وفيق حسير الخيال، كان رحّال طليق الخيال، وبصورة أعانت الكاتب على بناء روايته. فـ"رحال" منذ صباه "يصفي كل حساباته بالحلم"، وتصفيته تتم بأن يسحب غريمه من ياقته إلى أسفل، ثم يرفع ركبته العظمية المسننة إلى الوجه فيدميه. حتى الرغبة الجنسية يُشبعها، وهو على زوجته، بامرأة يستحضرها في الحلم. إنه يرى نفسه فأراً بجدارة، ويرى كل من يعرف في مراكش حيواناً لا يقل عن الفأر قدراً: فأمه بجعة، وأبوه سرعوف، وعمه سنجاب، وزوجته قنفذة، والآخرون بين جرذ وجربوع وبقرة وضبع وكلب، ولبؤة وزرافة. حتى الأحزاب يراها على هيئة الأخطبوط، والناقة. حديقة حيوان، ولكن لا تنطوي على رمزية جورج أورويل في روايته المعروفة. فشخوص الأخيرة تكاد تكون رموزاً لأفكار تحيل إلى النظام الشمولي، في حين حديقة ياسين عدنان هي مراكش، وهو أحد أبنائها، وشخوصها هم أبناء مراكش، وهو واحد منهم. لذلك، فإن الألقاب الحيوانية، وهي جميعاً سلبية، ليست رموزاً، ولا حتى أقنعة. إنها صدى واقعي للهاجس الشعبي في التنكيل، وتلقيب الآخر بما لا يحب. لذلك تبدو في الرواية من نسيج رأس "رحّال" وحده. فالأحداث تتحرك بفعل حركته هو. حين كان طالباً كانت الرواية تدور حول الحياة الطلابية، وتشرذم الطلبة بين الأيديولوجيات السياسية "الواهمة والإيهامية"، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وحين تسلم عملاً في قلب المدينة، كمشرف على مقهى للإنترنت، تتحول الرواية إلى أحداث المدينة السياسية؛ صراع الأحزاب هذه المرة من أجل الفوز الانتخابي. ما كان لدى الطلبة ضرباً من التحليق في هواء الأفكار الإيهامية المجردة، صار لدى الأحزاب السياسية يمشي على قدمين، يسعى إلى النفوذ المالي بكل الوسائل الرديئة، وهي متاحة في قبضة الأثرياء الجدد، ورجال الأعمال والعقار والسلطة ذاتها. و"رحال" فاعل، لا يكتفي بالمراقبة. فهو، بسبب هيمنته الانترنتية، يُستخدم من قبل جهاز الأمن لإشاعة مزيد من التشويه حول أشخاص بعينهم.

الذي قربني أكثر من حياة مراكش الداخلية هو أسلوب ياسين وتدفقه النثري. فإلى جانب الصلابة في جملته العربية، فهي تعتمد المجاز في التعبير، وهو مجازٌ صلب بدوره. ما من التباس، وليد عبث لغوي. تجد الآية القرآنية تدخل السياق، كما يدخلها الحديث النبوي، أو البيت الشعري، إلى جانب الجملة العامية المغربية، بصورة تبدو طبيعة في لغته الروائية. وكذلك تدفق المجاز الذي يرد بعفوية على امتداد 560 صفحة. فـ"رحّال" يرغب لو يطيب خاطر أبيه (السرعوف)، حين تهاجمه أمه (البجعة) بقوله: "تهديدات حليمة مجرد ثرثرة وكلام فارغ، وعليه ألا يأخذها بعين الاعتبار. ثم إنها بجعة، وليست أنثى السرعوف التي يمكنها أن تُداهم الذَّكر في أي لحظة فتأكل رأسه". هذا المجاز يضفي خفة دم، دون اعتماد المفارقات اللغوية.