صحيح أن بوتين انتُخب مجدداً رئيساً لروسيا في 18 الجاري، إلا أنه بعيد كل البعد عن صورة اللاعب المحترف والماهر في لعبة الشطرنج الجيو-سياسية التي ترسمها له وسائل الإعلام الغربية.

يعكس تفاخر الرئيس الروسي بشأن صاروخ روسيا الجديد الذي «لا يُقهر» وادعاؤه البراءة من التهم الموجهة إليه عن أن قراصنته يتلاعبون بانتخابات دول أخرى أو أن جواسيسه يقتلون الخصوم في أماكن بعيدة، مدى إصراره على العودة إلى ما كان سائداً خلال الحرب الباردة، إنما من دون القوة العسكرية أو الجاذب العقائدي العالمي اللذين جعلا من الاتحاد السوفياتي عدواً لا يُستهان به.

Ad

فبمَ فاز بوتين حقاً؟ تملك روسيا اليوم اقتصادياً أصغر من الاقتصاد الكندي، أما ميزانيتها العسكرية، فلا تتخطى بأكملها المبالغ الإضافية التي يريد ترامب من الكونغرس أن يخصصها للدفاع الأميركي، بالإضافة إلى ذلك، لا تملك روسيا أي حليف في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتعتبر دول مثل فنزويلا، كوبا، السودان، كوريا الشمالية، سوريا، وصربيا بين أصدقائها القلائل الذين تعتمد عليهم، صحيح أن الصين تعقد أحياناً صفقات مع روسيا، لكن الأثمان تكون دوماً مواتية لها.

لا شك أن بوتين يرغب في أن يراه العالم قائداً قوياً مخادعاً، لكنه يخفق دوماً في فهم تأثير أعماله بالكامل، وإذا تأملنا الصراعات التي اختارها في مجال السياسة الخارجية، يتضح لنا أنه تكتيكي محنّك على الأمد القصير أنما إستراتيجي فاشل على الأمد الطويل.

لنبدأ من أوكرانيا... رداً على التظاهرات الشعبية في عام 2014 التي أطاحت بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، رجل روسيا في كييف، أمر بوتين الجنود الروس بالتحرك. لا شك أن سيطرة بوتين على القرم منحته جائزة على حساب الغرب وعززت سمعته كرجل قوي، لكن تحرير أوكرانيا من منطقتها الأكثر ولاء لموسكو مهد الدرب أمام الوطنيين الأوكرانيين للفوز بالانتخابات في هذا البلد وترك روسيا لتحصد ما جنته يداها من مشاكل. علاوة على ذلك، لم تحقق البحرية الروسية أي قيمة استراتيجية في القرم، بما أنها تملك أساساً قاعدة في شبه الجزيرة هذه. مقابل كل هذا، عرّض بوتين روسيا لعقوبات من الولايات المتحدة وأوروبا، مما أدى إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي الروسي بين عامَي 2014 و2015 بما قدّره البنك الدولي بنحو 35 في المئة.

بالإضافة إلى ذلك، لم يسعَ بوتين للفوز بقلوب وعقول مَن حاول إخضاعهم، وقد دفعت خطواته لزعزعة استقرار مناطق شرق أوكرانيا جيلاً كاملاً من الأوكرانيين أصغر سناً من أن يتذكر الحياة في ظل الإمبراطوية التي حكمتها موسكو كي يعتقد أن روسيا عدوه اللدود. صحيح أن أوكرانيا قد لا تتحرك بسرعة باتجاه الاتحاد الأوروبي أو الناتو، لكننا نلاحظ اليوم تصميماً عميقاً بين الكثير من الأوكرانيين على ألا يعودوا مطلقاً للعب دور شريك روسيا الثانوي، لذلك قد يذكر التاريخ بوتين بصفته الروسي الذي أضاع أوكرانيا.

وماذا عن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق الأخرى؟ التفتت دول البلطيق (ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا) منذ زمن إلى الغرب، حتى إن جنود الناتو باتوا يتمركزون فيها اليوم، علماً أن هذا الوضع يُعتبر نتيجة مباشرة لسلوك روسيا العدائي المتواصل، أما أذربيجان ودول وسط آسيا، فتبدو أكثر اهتماماً بعلاقاتها الطويلة الأمد مع دولة الصين الناشئة منه بروابطها مع روسيا الصدئة.

نتيجة لذلك، تبقى بكين الاستراتيجية النهمة القوة الوحيدة المهيمنة راهناً في وسط آسيا، ولا شك أن هذا يسبب المزيد من الأسى والحزن لموسكو.

يستطيع بوتين التطلع إلى الرئيس السوري بشار الأسد، شريك روسيا الوحيد الذي تستطيع الاعتماد عليه في الشرق الأوسط، في سعيه لبسط نفوذه وادعائه تحقيق الانتصار على الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. فبإمكان روسيا راهناً الاحتفاظ بقاعدتها البحرية الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط، ولكن ما الغاية من ذلك؟ لا يُعتبر التدخل العميق في الشرق الأوسط خطوة جيدة لدولة تعاني الركود الاقتصادي وأنفقت مبالغ طائلة على جيشها.

لكن القرار الأكثر سوءاً الذي اتخذه بوتين يبقى إعطاءه الضوء الأخضر لأجهزته الاستخباراتية للتلاعب بالانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016. لا تُعتبر هذه خطوة مفاجئة، فالتلاعب والتخريب نوعان من الفنون التي يفتخر أي مسؤول سابق في الاستخبارات السوفياتية KGB بإتقانها، وقد أراد بوتين تحجيم الولايات المتحدة قليلاً، فضلاً عن أنه كره هيلاري كلينتون. لم تنكشف بعد أي أدلة على أن بوتين أوصل ترامب إلى سدة الرئاسة، لكن المجتمع الاستخباراتي الأميركي ومشرعي كلا الحزبين في الولايات المتحدة صاروا يركّزون اليوم على الخطر الذي تمثله روسيا.

نجح ميل بوتين في المغامرة حتى اليوم بتحويل انتباه الشعب الروسي بعيداً عن الركود الاقتصادي والفساد المتفشي في الداخل، وهنا يكمن إنجازه الدائم الوحيد: ضمانه استقلال المصرف المركزي في روسيا وتخبئته الأموال في صناديق احتياط في أوقات الرخاء استعداداً للمراحل العصيبة.

تخرج روسيا ببطء اليوم من سنتين من الركود، وخصوصاً مع تحقيق أسعار النفط ارتفاعاً بسيطاً، ولكن مع انطلاق بوتين بولايته الرابعة كرئيس لروسيا، سيواجه واقعاً حالكاً، إذ لا تزال روسيا تعتمد إلى حد كبير على أسعار النفط تماماً كما كانت عندما استلم زمام السلطة منذ عقد من الزمن.

قبل عشر سنوات، ارتفعت أسعار النفط ليبلغ ثمن البرميل 147 دولاراً أميركياً، فتحسنّت نتيجة ذلك ظروف العيش والثقة في روسيا، ولكن منذ ذلك الحين، تراجعت الأسعار إلى أقل من النصف ويبدو أنها لن تعاود الارتفاع في المستقبل المنظور، وخصوصاً أن الولايات المتحدة تعيش راهناً تبدلاً ثورياً في أسواق الطاقة، فقد ساعد الابتكار التكنولوجي في مجال إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي الولايات المتحدة على منافسة روسيا وإبقاء الأسعار أدنى بكثير مما شهدناه خلال طفرة السلع قبل نحو عقد من الزمن.

ما من دليل على أن روسيا ستتكيف مع هذا الواقع الجديد بتنويعها اقتصادها أخيراً. حتى اليوم، يرتبط نحو 80 في المئة من الصادرات الروسية مباشرةً بالنفط والغاز، وفق مركز كارنغي في موسكو. نتيجة لذلك، سيواجه الروس صعوبة متنامية في الحفاظ على مستوى معيشتهم، كذلك ستتراجع الأموال التي تستطيع الحكومة إنفاقها على الأسلحة والاسترضاء. لم تحقق الجهود الأخيرة التي بُذلت لإنشاء نسخة روسية من وادي السليكون نجاحاً يُذكر، ويعود ذلك إلى أن عقول روسيا الأكثر ذكاء وموهبةً تملك أسباباً كثيرة تدفعها إلى مغادرة البلد بحثاً عن فرص أفضل.

إذن، ليستمتع بوتين بأفراح انتصاره مادام يعتبره انتصارا، بما أن آفاقه وآفاق بلده لا تحمل على ما يبدو الكثير من الأفراح الأخرى.

● إيان بريمير- تايم