حين تأتي صرخة مكتومة على استحياء من شاعر كبير فيصرح بأنه "لا يملك موهبة التسول!"، وهو شامخ بحزن شديد، عن إغلاق موقعه الإلكتروني لعدم توفر الدعم المالي، ويشكر كل من ساهم في دعمه خلال 22 عاماً... في رسالة قصيرة تردد صداها بين الأدباء، فإن هذا يعني أن هناك خللاً كبيراً في منظومة الثقافة العربية الجادة رغم كل ما يقام من معارض ومسابقات ومهرجانات تحت اسم الثقافة والإبداع، وأن علينا أن ننظر إلى كل هذه المظاهر بإمعان، لأنها لا تسير في الجادة الصحيحة، وأن نلفت نظر القائمين عليها، لأن ذلك لا ينطبق فقط على ما جاء في رسالة الشاعر البحريني الكبير قاسم حداد، من أسفٍ على جهد تجمد تحت وطأة الحاجة إلى قليل من دعم مالي يمكن أن يوفره شخص واحد أو مؤسسة ثقافية ذات ميزانية فيها الفائض الذي يمكن أن يبقي صرحاً شعرياً قائما.

بالنظر حولنا إلى ما يتفرع عن عالم الإبداع من مسرح وموسيقى وفن تشكيلي جاد ورفيع، فإننا سنصاب بخيبة أمل كبيرة، لا من قلة عدد المطروح على الساحة الإبداعية ولكن من المستوى غير المبشر لما يعرض على العامة، لاسيما المتلقي الذي يجتهد في البحث عن كل ثمين يغني به ملكة التذوق عنده، إضافة إلى جيل نطمح إلى أن يكون قادرا على تحمل المسؤولية والرسالة العظيمة من وراء الفن الرفيع وما يتفرع عنه.

Ad

أن تُفتح أمام هذا الغث أبواب على مصاريعها فترفع أسماء وتفرد لها صفحات في الصحف والقنوات الفضائية فإن هذا يجعلنا نعيش صدمة لا تقل عن تلك التي نستشعرها في كثير من مناحي الحياة في وطننا العربي.

سيقول البعض إن الحياة في تطور واستمرار في البحث بما يتوافق مع متطلب العصر ونحن نضم صوتنا إليه، ولكن أليس من الواجب أن يكون لهذا التوافق مع العصر ومراحله أدواته الحاضرة بإيجابية، وأن تُستغل بأفضل صورها وإمكانياتها؟ أليس من حقنا أن نقول إن هذه الأدوات والإمكانيات العجيبة التي توفرت لنا في عصر التقنيات يجب أن تكون عاملا مساعدا على الارتقاء بمستوى الثقافة والمعرفة التي باتت في متناول اليد بمجرد الضغط على مفتاح صغير في جهاز بحجم ساعة اليد؟!

كيف يكون الحال إن تعطلت عجلة العطاء، ولم نجد هذا المفتاح الصغير ليدلنا على مواطن الثقافة الرفيعة، في وقت كان يمكنها أن تصل إلى كل من يبحث عنها، لكنها توقفت لسبب مادي لا يعجز عنه إلا صاحب مبدأ لا يجيد التسول!

إن الخوف الذي يحتل عقولنا وقلوبنا يكاد يصيب كل طموحاتنا إلى ثقافة مستنيرة تخرجنا من ضلال المرحلة وما بها من تضارب وتناقض وضجيج تعلو فيه الأصوات الغريبة وصرخات الجياع والمنكوبين وقد تحولوا إلى مادة تشغل بال الإنسان الذي يتخبط بين ما يسمع وما يرى، وكأن الطحن في الماء هو القانون السائد الذي يفرد جناحيه!

قد تكون هناك أصوات استغاثة أخرى في فروع ثقافية مماثلة لا تصل إلينا الآن، لكنها حتما ستصل في وقت نتمنى ألا يكون الأوان قد فات عليها، لتجد من يمد إليها يد الإنقاذ!

* كاتب فلسطيني من كندا