الدرس الذي تعلمه الأدباء كان درسا قاسيا بلا شك، وأتصورهم استوعبوه جيدا، ويحاولون قدر استطاعتهم ألا يقعوا فيه، كما وقع فيه كثيرون غيرهم. كثيرون أخذوا طريقا مغايرا "للمنطق" العربي الثقافي. حين خيَّرهم الزمن وهو يرمي قطعة نقوده "ملك أم كتابة" اختار أغلبهم، حتى لا أقول جميعهم، "الملك دون تردد". هذا الخيار لم يأتِ من عدم خبرة، لكنه كان نتيجة مقارنات أدبية وثقافية سابقة.

كان أجمل شعراء القرن الماضي يرقد غريبا في المستشفى الأميري بالكويت، يفصله عن بلدته جيكور مسافة ساعات قليلة، لكنه لم يستطع أن يوفر مالا يكفي لرحلة كهذه. فراح يئن، وكأن أنين السلّ الذي يدوّي بصدره لم يكفه.

Ad

وا حسرتاه... فلن أعود إلى العراق

وهل يعود

من كان تعوزه النقود؟ وكيف تدخر النقود

وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما تجود

به الكرام على الطعام؟

مات بدر شاكر السيّاب فقيرا معدما غريبا على ضفة الخليج. حين خيَّره الزمن وهو يرمي قطعة المعدن "ملك أم كتابة" اختار الكتابة. الكتابة دون الملك هي موت يشبه موت السياب الذي نقله صديقه ليدفن في بلدته ولم يهتم "الملك" حتى بالسؤال عنه.

لا تختلف حكاية هذا الاختيار عند شاعر أكثر أهمية في الشعر السياسي من السياب وهو يرقد في المصح العام. يزوره ثري خليجي ليدفع له تكاليف علاجه ومعيشته فيرفض، ويموت دون أن يهتم "الملك" بأكثر من ورقة كتب فيها "ينقل المواطن أمل دنقل للعلاج في المصح العمومي". كان ذلك درسا لمن يحاول أن يختار "الكتابة" على "الملك". دنقل الذي صرخ في وجوه أقرانه "ملك أم كتابة"، اختار الكتابة، فرفضه الملك وأتباع الملك.

الأدباء اليوم استوعبوا الدرس جيدا، وقبل أن يسألهم الزمن "ملك أم كتابة" يصرخون بصوت واحد "ملك، ملك". الدرس الأهم هو أن يبتعدوا عن مصير هؤلاء الذين لم يعرفوا كيف يعيشون من أدبهم. وجد الأدباء اليوم ضالتهم في مؤسسات الدولة والانتماء مباشرة لها والاحتماء من الموت فقراً وعوزاً بالاستلام لكل ما تتطلبه سياستها. والذين يحاولون التذاكي يلجأون إلى مؤسسات تبدو مستقلة، كاتحادات الكتاب وروابطهم الأدبية التي ترعاها السلطة.

لن أكون مثاليا هنا، ولست ضد أن يستخدم الكاتب موارد بلده وجوائزه في سبيل عيشه، لكن دون أن يجعله ذلك أداة في يد النظام ضد مآسي شعبه، أو حتى أن يكون أداة صامتة لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم. الأديب يكتب عن الناس للناس، أو هكذا يفترض، وإذا تخلى عن الناس تخلوا عنه. لن يرحمه التاريخ، ولن ينصفه سوى عمله.

قبل أيام توفي العبقري العالم ستيفن هوكنغ، الذي كان عالما في الفيزياء والفلك ولم يكن كاتبا عن الناس أو مآسيهم، لكن الرجل، ولإحساسه بوجود مريدين من العامة حوله، كان له صوت إنساني فيما يحدث حوله بالعالم، وكنا نشجعه ونحييه لذلك دون أن نلتفت لأصواتنا الصامتة في وجه كل هذا البؤس حولنا وبالقرب منا.

جوائز "الملك" واتحادات "الملك" والمجالس الوطنية الثقافية "للملك" والدعوات وفنادق "الملك" ستغير مفهوم "الكتابة"، ولن نجد من يختارها إلا بما يروق لسيدنا "الملك" ومؤسساته الثقافية التي تستمد صوتها من صوته. الذي يقرأ أعمالنا الأدبية ويتابع تصرفات أدبائنا سيدرك مدى ابتهاج سعادة السلطة فيما حققته. الذي يرفض ما كتبتُ يشير إليَّ بكاتب يشبه أمل دنقل اليوم، وأكون له من الشاكرين.