حتى الآن يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب كثير الكلام قليل الفعال فيما يتعلق بالسياسة التجارية، لكن قد تكون هذه الفكرة في طريقها للتغير، فقد أقدم في يناير على رفع الرسوم الجمركية على الغسالات والخلايا الشمسية المستوردة، وها هو الآن يفرض بالفعل رسوما مرتفعة للغاية على الصلب والألمنيوم المستورد (25% و10% على الترتيب)، ليؤسس بذلك للتحرك نحو استثناء نادر الاستخدام لقواعد منظمة التجارة العالمية بحجة الأمن القومي.

وقد بالغ كثير من المعلقين في ردود أفعالهم إزاء الرسوم المفروضة، حيث تنبؤوا بنشوب "حرب تجارية" وما هو أسوأ من ذلك، بل إن خبيرا وصف الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم بأنها أكبر قيود تجارية منذ عام 1971، عندما فرض الرئيس ريتشارد نيكسون رسوم استيراد إضافية مقدارها 10% لمواجهة العجز التجاري في ميزانية الولايات المتحدة، وتنبأ هذا الخبير بأن تكون لرسوم ترامب "تداعيات ضخمة على نظام التجارة العالمي"، ووصفت وول ستريت جورنال رسوم ترامب بأنها "الخطأ الأكبر بين أخطاء سياساته منذ توليه الرئاسة"- وهي دعوى جديرة بالملاحظة والاهتمام في ضوء إخفاقات الإدارة الأميركية في التعامل مع ملفات مثل روسيا، ومكتب التحقيقات الفدرالي، وكوريا الشمالية، والهجرة، والضرائب، والقومية البيضاء، وغيرها من القضايا الأخرى الكثيرة.

Ad

والواقع أن التدابير التي اتخذها ترامب في مجال التجارة حتى الآن كانت محدودة التأثير والقيمة، وتتلاشى حجما ومدى إذا قورنت بسياسات الحماية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي، حينما رفع ريغان الرسوم وشدد القيود على عدد كبير من الصناعات، بما فيها المنسوجات، والسيارات، والدراجات البخارية، والصلب، والخشب، والسكر، والمنتجات الإلكترونية. ومن المعروف أن ريغان مارس ضغوطا على اليابان كي تقبل قيودا "طوعية" على صادرات السيارات، بل إنه فرض رسوما بلغت 100% على مجموعة مختارة من المنتجات الإلكترونية اليابانية، بزعم أن اليابان لم تحافظ على تعهدها بالإبقاء على أسعار الرقائق الإلكترونية المصدرة مرتفعة.

وكما تنتهك سياسات ترامب روح، إن لم يكن منطوق، اتفاقيات التجارة المعاصرة، فقد استغل ريغان ثغرات في اتفاقات قائمة آنذاك لفرض قيود تجارية، وكانت هذه القيود تمثل خروجا تاما عن الأعراف السائدة، حتى بات الخوف من "نزعة الحماية الجديدة" شائعا، حينها كتب محام متخصص في القضايا التجارية قائلا: "هناك خطر كبير من تعطل النظام أو انهياره في إعادة قاسية لأحداث ثلاثينيات القرن العشرين".

وقد ثبت أن هذه التحذيرات كان مبعثها قلق مبالغ فيه، فلم يتأثر الاقتصاد العالمي كثيرا بالإقدام على تغيير مؤقت لاتجاه التيار المتحرك نحو تحرير التجارة، وهو التيار الذي ساد في ثمانينيات القرن الماضي، بل ربما استفاد الاقتصاد العالمي في الحقيقة من ذلك، حيث كانت نزعة الحماية لريغان بمثابة صمام أمان أوجد سبيلا للتنفيس عن الغضب السياسي ومنع ظهور تصدعات أكبر.

وما إن تحسن الاقتصاد الكلي الأميركي، حتى تسارعت وتيرة العولمة بشكل ملحوظ، وسرعان ما أعقب ذلك في التسعينيات ظهور اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، ومنظمة التجارة العالمية (التي منعت صراحة القيود "الطوعية" على التصدير التي استخدمها ريغان)، وازدهار الصادرات الصينية، فضلا عن إزالة القيود المتبقية على التمويل عبر الحدود.

وربما يترتب على نزوع ترامب إلى فرض تدابير الحماية عواقب مختلفة تماما، فليس ضروريا أن يكرر التاريخ نفسه، ويكفي لذلك سبب واحد وهو أن قيود ترامب التجارية تميل في طبيعتها أكثر إلى أن تكون أحادية الجانب وصادمة، رغم محدودية تأثيرها، أما ريغان فقد تفاوض مع الشركاء التجاريين على كثير من تدابير الحماية التي اتخذها، وكان الهدف منها تخفيف العبء الاقتصادي على المصدرين.

على سبيل المثال، كانت القيود الطوعية على تصدير السيارات والصلب في الثمانينيات تحددها وتديرها الدول المصدرة، مما أتاح الفرصة للشركات اليابانية والأوروبية للتواطؤ على رفع أسعار صادراتها للسوق الأميركية، بل ربما زادت أرباح هذه الشركات بفضل القيود التجارية الأميركية، أما اليوم فإن فرصة مصدري الغسالات في كوريا الجنوبية ومصدري الخلايا الشمسية في الصين لأن يحذوا هذا الحذو ضعيفة للغاية، وستفجر الأحادية التي تتسم بها إجراءات ترامب غضبا أكبر بين شركائه التجاريين، وبالتالي فمن المرجح أن تتسبب في إجراءات انتقامية.

ثمة تناقض آخر مع تدابير عصر ريغان يتمثل بحقيقة أننا نعيش في مرحلة أكثر تقدما من العولمة تنطوي على مشاكل أكبر، وقد خلق الاندفاع وراء عولمة مفرطة في التسعينيات انقساما عميقا بين من ينعمون بالرخاء في ظل الاقتصاد العالمي ويتشاركون قيمه، وغيرهم ممن لا يتحقق لهم ذلك، ونتيجة لهذا الأمر ربما أصبحت قوى القومية والعداء للمهاجرين الآن أقوى من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

رغم مزاعم إدارة ترامب بأن سياساتها تهدف إلى إعادة العدالة إلى التجارة العالمية، فإن هذه السياسات ستؤدي إلى تفاقم المشكلات المتعلقة بهذه القضية بدلا من معالجتها، وكما يوضح غاريد بيرنشتاين ودين بيكر، فمن المحتمل أن تعود رسوم ترامب بالفائدة على أقلية صغيرة من العمال في الصناعات التي تحظى بالحماية على حساب أغلبية كبيرة من العمال الآخرين في الصناعات الدنيا وغيرها من المجالات الأخرى. ولا يمكن أن تُعالج مظاهر الاختلال والظلم التي ولّدها الاقتصاد العالمي من خلال حماية صناعات قليلة ذات حظوة سياسية باستخدام اعتبارات أمن قومي سخيفة للغاية كمبرر، فمثل هذا النوع من الحماية ما هو إلا ضرب من التحايل، وليست ببرنامج جاد للإصلاح التجاري.

وكان أحرى ببرنامج إصلاح جاد أن يضع حدا للحماية التي تتمتع بها شركات الأدوية والمهنيين المهرة كالأطباء، كما يقول بيرنشتاين وبيكر. كان أحرى به أن يعالج المخاوف من الإغراق الاجتماعي واستقلال السياسات النقدية بإعادة التفاوض حول قواعد منظمة التجارة العالمية مع مختلف الأطراف، وكان أحرى به أن يستهدف المجالات التي لا تزال مكاسبها من التجارة كبيرة جدا، مثل تنقل العمالة عالميا، بدلا من المجالات التي تفيد مصالح خاصة فقط.

بيد أنه ينبغي توجيه معظم الجهود للساحة الداخلية، حيث يتطلب إصلاح العقد الاجتماعي الداخلي مجموعة متنوعة من السياسات الاجتماعية وسياسات الضرائب والسياسات المبتكرة لوضع الأساس لنسخة تلائم القرن الحادي والعشرين من الصفقة الجديدة، لكن ترامب يتحرك في الاتجاه المعاكس بعدما أقدم عليه من تخفيض ضرائب الشركات وإلغاء القيود التنظيمية للأسواق المالية، وستتضح الطبيعة الكارثية لأجندة ترامب الداخلية، حتى بالنسبة إلى ناخبيه، إن عاجلا أو آجلا، وعند ذلك لن يكون هناك مفر من إشعال حرب تجارية على الطريقة القديمة لتشتيت الانتباه أو توفير الغطاء السياسي.

* داني رودريك

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية، جامعة هافارد، ومؤلف كتاب: حديث صريح عن التجارة: أفكار لاقتصاد عالمي عاقل.

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»