تناولت موضوع العفو عن العقوبة أو العفو الشامل عن الجريمة لأقطع بالرأي الذي حمل عنوان مقالي الأحد الماضي وهذا المقال أيضاً، من زاويتين، الزاوية الأولى: أن العفو يجور على حق المتهم في محاكمة منصفة وعادلة تنقض افتراض البراءة في الإنسان، والزاوية الثانية: حماية العدالة من التدخل في سيرها وصون استقلال القضاء.

Ad

تفسير أحكام المادة (75) من الدستور

ورأيت أن أفرد هذا المقال لتفسير المادة (75) من الدستور، فيما نصت عليه من أنه "للأمير أن يعفو بمرسوم عن العقوبة أو أن يخفضها، أما العفو الشامل فلا يكون إلا بقانون، وذلك عن الجرائم المقترفة قبل اقتراح العفو".

قبل اقتراح العفو

ولعل أول ما يصادفنا في تفسير أحكام هذه المادة ذلك القيد الذي انفردت به أحكامها في تحديدها للنطاق الزمني لخطاب الدستور بالعفو عن الجريمة، وهو أن تكون الجريمة- محل العفو- قد تم اقترافها قبل اقتراح العفو، وليس قبل صدور قانون العفو أو قبل العمل به، فالنص قد أورد هذا الحكم بهذا القيد ليعبر عن معنيين:

المعنى الأول... حظر على نواب الأمة

وهي الدلالة التي تستفاد أصلا من النص، وهو أن المشرع الدستوري يحظر على نواب الأمة تقديم مثل هذا الاقتراح بقانون بالعفو الشامل قبل أن يصبح الحكم باتّاً ونهائياً، حتى لا ينطوي ذلك على تدخل في سير العدالة والمحاكمة الجنائية لم تنته فصولها أو أوشكت على الانتهاء، بسبب ما يترتب على هذا الاقتراح من تأثير على القاضي، في تكوين عقيدته في براءة المتهم أو إدانته، إذا كان المتهم لا يزال وديعة بين أيدي قضاته، وقد يتجه القاضي في حكمه إلى الإدانة انتصافا لاستقلاله إذا شعر أن هذا الاقتراح هو وسيلة من وسائل الضغط عليه، وقد يتنحى عن نظر القضية إذا استشعر الحرج من الفصل فيها بعد تقديم هذا الاقتراح، وقد يتضامن القضاة الآخرون معه، فيحرم المتهم من حقه الطبيعي في محاكمة منصفة عادلة.

وليس هذا الحظر مقصوراً على تقديم اقتراح بقانون، بل يشمل كذلك أي اقتراح برغبة بأن تستخدم الحكومة سلطتها في العفو عن العقوبة، لاتحاد علة الحكم.

حظر على السلطة التنفيذية أيضاً

وهو حظر يفرض كذلك على السلطة التنفيذية في العفو عن العقوبة المنصوص عليها في المادة (75) حيث يستخدم الأمير سلطته بواسطة وزرائه، طبقا للمادة 55 من الدستور، لاتحاد علة الحكم أيضا، حماية لاستقلال القضاء ولدرء تدخلها في سير العدالة.

كما أن مفهوم استقلال القضاء يعني ألا يسلب اختصاص القاضي بدعوى يختص بنظرها طبقا للقانون، وهو يعني أيضا أن حق التقاضي الذي كفله الدستور، والذي يتفرع عنه حق الدفاع، من الحقوق الدستورية التي لا يجوز للقانون ذاته أن يحد أو ينتقص منها، وينطبق من باب أولى على قانون العفو، وهو قرار سياسي فرض الدستور صدوره بقانون وذلك للتأني والتروي في إقراره، بما يتطلبه إقرار القوانين من إجراءات ومناقشات في لجان المجلس وفي المجلس ذاته، وأن تجرى فيه المداولة مرتين إلى آخره.

وقد أملته ضرورة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية على نواب الأمة، والقضاء كما صوره التراث القضائي ملاك معصوب العينين عن هذه الضرورة، فهو يطبق القانون ولا يشرعه.

المعنى الثاني... صدور حكم نهائي باتّ قبل العفو

وهو المعنى المستفاد من الحكم تبعاً للدلالة الأولى بأن تكون الجريمة– محل العفو- قد صدر حكم بالإدانة فيها لا يقبل طعنا أو مراجعة من أي جهة قضائية، لأن القاعدة في تفسير النصوص الدستورية تقضي بتكاملها مع النصوص الدستورية الأخرى وذلك بالتوافق معها، وبما ينهى عن التعارض معها كذلك.

(حكم المحكمة الدستورية في الكويت- جلسة 8/ 1/ 1997 طلب التفسير رقم 26 لسنة 1996).

فاقتراح العفو قبل ثبوت الجريمة في حق المتهمين بها بحكم قضائي نهائي وبات يتعارض وحماية العدالة وافتراض البراءة في الإنسان وحقه في محاكمة منصفة وعادلة وعدم جواز التدخل في سير العدالة، وهي الضمانات التي نصت عليها المادتان 34 و163 من الدستور.

وفي هذا السياق يقول القاضي اللبناني غسان رباح في كتابه "نظرية العفو في التشريعات العربية" وعلى سند من حكم للقضاء الفرنسي إنه يجب أن تكون الإدانة مبرمة، أي غير قابلة لأي وجه أو طريق من طرق المراجعة، وألا يكون الحكم قد صدر غيابيا أو صدر بعقوبة موقوفة النفاذ، مستندا في هذا إلى القضاء الفرنسي التالي:

•Trib. Belfort, 23 Juin 1964 Kec, Gaz, Pal. 1964.1.475

(ص 41) Sirey. L. (1895). P.991 •

إدامة الإدانة

ويضيف القاضي رباح أن من آثار العفو أنه وإن كان يعفي من العقوبة إلا أنه يديم الإدانة (ص42)، فالعفو الشامل مع إدامة الإدانة، يحرم المتهمين في هذه القضية من فرصة سانحة لهم في الحصول على حكم ببراءتهم، ووفقا لقاعدة من قواعد أصول الفقه الإسلامي "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه".

فالعفو قبل الحكم بالبراءة من محكمة التمييز، سوف يسقط الدعوى العامة أمام المحكمة بما يحرم المتهمين من أملهم في الفوز بالبراءة.

فضل الشرف العسكري على حياته بالعفو

ولعل ما يؤيد رأينا بالانتظار ولن يخسر المتهمون شيئا، أن اقتراحاً بالعفو الشامل عن الجرائم التي نسب ارتكابها إلى المتهمين، يمكن أن يقدم إلى المجلس الموقر إذا صدر من محكمة التمييز- لا قدر الله– حكم بإدانتهم.

ومن المفارقات في هذا السياق أن أحد العسكريين في فرنسا صدر عفو بحقه بتخفيض عقوبة الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، فتظلم من قرار العفو مفضلا الشرف العسكري على الحياة، لأن عقوبة الموت لا تؤدي إلى إنزال رتبته العسكرية، على عكس عقوبة الأشغال الشاقة التي تؤدي إلى المساس بها.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.