لا جديد في أن الشرق الأوسط يتغير، إذا كان الحديث يجري عن التحولات السياسية الدراماتيكية التي ضربت المنطقة منذ اندلعت الانتفاضات في عام 2011، فقوضت دولاً، وأشعلت حروباً أهلية في أخرى، وغيرت أنظمة، وتركت الإقليم على فوهة بركان.

لكن هذا المقال لا يُعنى بالتغيرات السياسية الحادة التي ضربت الإقليم، بل يركز على ما جرى على صعيد التطورات الثقافية والاجتماعية؛ وهي تطورات لا تقل دراماتيكية عما جرى على صعيد السياسة.

Ad

لقد طرأت تحولات ثقافية واجتماعية جوهرية على عدد من دول الإقليم الرئيسة؛ مثل إيران، وتركيا، والسعودية، ومصر، وهي تحولات مرتبطة ارتباطاً واضحاً بالتطور السياسي الراهن من جانب، ومستندة إلى تاريخ من المطالب والإرهاصات، التي تفاعلت في الساحة المجتمعية لدول الإقليم، على مدى أكثر من عقدين، من جانب آخر.

على مدى الشهور الفائتة لم تهدأ الاحتجاجات المناصرة لحقوق النساء في إيران، بعدما اتضح أن أغلبية من الشعب الإيراني باتت معترضة على القوانين والممارسات التي تستهدف الحد من حرية النساء في قضية الملبس.

ظل "التشادور" النسائي التقليدي مرادفاً شكلياً للنسق السياسي الذي اعتمدته الثورة الإيرانية منذ وصلت إلى السلطة، في عام 1979، لكن هذا الحجاب المميز، ذا الدلالة السياسية التي لا تخفى على أحد، لم يعد مقبولاً من أكثرية الشعب الإيراني كما يبدو.

في شهر فبراير الماضي، حذر تقرير أصدره مركز الأبحاث الاستراتيجية التابع للرئاسة الإيرانية من اتساع نطاق الاحتجاجات الرافضة لسياسات فرض نمط محدد للحجاب قسراً، تجاوباً مع مطالب نسائية، يدعمها قطاع واسع من الرجال، بإتاحة حرية اختيار غطاء الرأس الذي ترتديه المرأة الإيرانية.

لم تكن تلك الاحتجاجات وليدة اللحظة السياسية والاجتماعية الراهنة كما يعتقد البعض، لكنها جاءت كتعبير عن تراث من الاحتجاج والرفض من قبل قطاعات واسعة من النساء للإجراءات ذات الطابع القانوني، التي تفرض نمطاً معيناً للملبس.

ووفقاً لتقرير صادر عن وكالة "إيسنا" الإيرانية، فإن استطلاعات رأي موثوقة تشير إلى أن "أغلبية بين الشعب الإيراني تعتقد أن ارتداء الحجاب من عدمه حق مبدئي من حقوق النساء، ويجب ألا تفرضه الدولة عليهن".

ويؤكد مدير مركز "إيسبا" الإيراني للأبحاث، محمد أغاسي، أن استطلاعات الرأي تفيد أن نحو ربع نساء إيران فقط ما زلن يؤيدن ارتداء "التشادور"، الذي انخفضت الرغبة في ارتدائه بنسبة 50% تقريباً في الفترة بين العامين 1975 (في ظل نظام الشاه) و2015.

وفي تركيا، اندلعت الاحتجاجات النسائية، في مواكبة الاحتفالات بذكرى يوم المرأة العالمي، حيث احتشد الآلاف من النساء في جادة الاستقلال، باسطنبول، وبينهن من طالب بمنح المرأة المزيد من الحريات، وتمكينها مجتمعياً، في حلقة من سلسلة طويلة من الاحتجاجات المتواترة في الاتجاه ذاته.

تخوض المعارضة الليبرالية معركة ضد سياسات الرئيس إردوغان التي تستهدف إقرار قوانين ذات طابع محافظ، أو التي تدعو النساء إلى زيادة النسل، أو تصريحاته التي يرى البعض أنها تعكس تصوراً يليق بخلافة وسلطنة، وليس بدولة علمانية استهدفت الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وفي السعودية تجري التحولات الاجتماعية غير المسبوقة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بإيقاع مذهل، وتحظى على ما يبدو بقدر كبير من التأييد في قطاعات الشباب، التي تمثل أغلبية حاسمة بين الجمهور السعودي.

كانت قرارات السماح للمرأة بقيادة السيارات، وحضور مباريات كرة القدم، ثم السماح بالحفلات الغنائية، تتوالى، بمواكبة تحديثات اقتصادية واجتماعية، ضمن رؤية 2030، التي ترتكز على تمكين الشباب، وإتاحة المزيد من الفرص الاقتصادية والاجتماعية والعلمية لهم. لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن تحدث تلك التطورات الجذرية في المجتمع السعودي بتلك السلاسة، ورغم عدم وجود استطلاعات رأي يمكن الاستشهاد بها للتأكيد على قبول تلك التحولات، فإن التقارير الصحافية التي تعدها وسائل الإعلام الدولية المعتبرة تؤكد أن تأييداً واسعاً لها يساندها ويسهل تفعيلها.

وفي مصر، يمكن القول إن الفترة التي وصلت فيها تيارات الإسلام السياسي ("الإخوان" والسلفيون) إلى مفاصل الحكم- سواء في الجمعية التأسيسية التي أعدت دستور 2012 الملغى، أو في برلمان "الإخوان" المنحل، ورئاسة مرسي- تركت المجتمع أكثر رغبة في تأييد الحريات الاجتماعية، وأقل مطاوعة لدعاوى المحافظة والتزمت الديني.

ثمة ملامح رئيسة للتطورات الاجتماعية والثقافية في بلدان منطقة الشرق الأوسط؛ وهي ملامح تتعلق بحرية المرأة، ودورها، وحضورها في المجال العام، وتمكين الشباب على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، وتراجع دور الإسلام السياسي في تأطير الحالة الاجتماعية. تحدث تلك التطورات بإرادة ودعم وقرارات تأتي من القيادة السياسية، لكن ما يجعلها أكثر تجذراً في البيئة الاجتماعية والثقافية، وأكثر قابلية للاستدامة، أنها تحظى بتأييد قطاعات عريضة من الجمهور. لقد أدت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً رئيساً في بلورة تلك التطورات؛ إذ أتاحت لقطاعات الشباب الواسعة، والنساء، التفاعل، ورفع الصوت، والتعبير عن الرأي، وتصليب المواقف، والمناداة بـ"الحقوق". وبسبب التغيرات المتسارعة في المجال الاتصالي، زاد اتصال الشباب والمرأة في منطقة الشرق الأوسط بالنسق الغربي الليبرالي، عبر التعرض لمضامين إعلامية وفكرية وثقافية ذات طابع عالمي.

باتت قطاعات الشباب، التي تشكل الغالبية العظمى من سكان المنطقة، أكثر قدرة على فهم الأنساق الاجتماعية الأكثر حداثة، وأكثر رغبة في مقاربتها في مجتمعاتها.

وبسبب قدرة القطاعات الأصغر سناً على التواصل والتأثير، راح المجتمع يصوغ مطالبه الجديدة، ويسندها بالحجج والذرائع، ويتواصل من أجل تفعيلها، وهو أمر تمكن بعض القادة من إدراكه. كان تهافت قدرة الإسلام السياسي على تقديم رؤية صالحة للتفعيل في ظل متغيرات العصر، أحد العوامل التي قللت من النزعة المحافظة في المنطقة، وفتحت المجال أمام دعوات الحداثة والعصرنة.

ستكون هناك مقاومة من القوى المحافظة في المنطقة بكل تأكيد، وخصوصاً عندما ستصطدم سياسات التحديث الاجتماعي والثقافي بما تدعيه تلك القوى من "ثوابت"، وسيكون منبع الخطورة في هذا الادعاء أنه يُقدم للجمهور بوصفه "تعاليم دينية" أو "ركائز هوية".

* كاتب مصري