في نهاية السبعينيات من القرن الماضي بدأت حركة عمالة مصرية مهاجرة بأعداد كبيرة، استمرت حتى اليوم، إلى دول الخليج العربي بعد الطفرة الكبيرة التي شهدتها المنطقة لارتفاع أسعار النفط. السعودية كانت أكثر الدول استقبالا لهذه العمالة بمستوياتها الفكرية والاجتماعية المختلفة. بعدها بدأت دورة السفر والعودة لملايين العمال، منهم متعلمون، وأغلبيتهم أنصاف متعلمين، أو أميون، رجع الكثير منهم بتركيبة نفسية وفكرية مختلفة، وكأنه ولد هناك من جديد، بدا الأمر كأنه نتاج لذلك التغلغل الإخواني لجماعة الإخوان المسلمين في نسيج مجتمعات الخليج ومفاصله، بعد أن أخرجها عبد الناصر في الستينيات.

هذا التغلغل وجد حليفاً قوياً داخل المجتمع السعودي يمثل دعاة الصحوة. هذا التفاعل بين هذين العنصرين المتشددين أنتج ذرية هجينة اختلفت تسمياتها لكنها حملت فكرا وتوجهات جديدة على المجتمع المصري. عاد هؤلاء إلى مصر يدعون الناس إلى تدين جديد، أحد عناصره الأساسية معاداة المسيحيين والصوفية، بل وصل الأمر بالبعض إلى تكفيرهم. وتشبّه هؤلاء بالدعاة "الصحويين" في السعودية، ولبسوا نفس لباسهم، وأطالوا لحاهم بنفس الطريقة، وكانوا يبدون في أعين الناس كأنهم سعوديون بكامل مظهرهم.

Ad

انتقل فكر الصحوة إلى مصر بصورة شرسة ومتوحشة في كثير من الأوقات، فكان همهم التعرض لعقائد الأقباط على منابر المساجد، ولم يكن غريباً لسنوات طويلة أن يخرج الإمام متطاولاً في خطبته أو درسه الديني عليهم والتشكيك في عقيدتهم. كانت ميكروفونات المساجد تحمل هذا الهجوم إلى آذان المسيحيين في أنحاء مصر، ووصل الأمر ببعض الجماعات الإسلامية إلى إصدار فتوى باستحلال أموال المسيحيين وممتلكاتهم، وفِي بعض الأحيان أرواحهم. فيكون القبطي جالساً في بيته يوم الجمعة، وإمام المسجد المجاور يسخر من عقيدته، ويصفها بأبشع الألفاظ... استمرت هذه الحال ثلاثة عقود حتى يناير 2011، ثم ازداد هذا التيار توحشاً بعد يناير 2011، حيث تحوّل هذا التيار إلى العمل السياسي، وصار رموزه حاضرين بقوة في المشهدين السياسي والثقافي، وهنا بدأت تظهر فتاوى تحرّم على المسلم أن يهنئ جاره القبطي بالعيد، بعد أن كانوا يتبادلون كل شيء، ويتشاركون كل شيء؛ في الأفراح والأحزان، وفي كل المناسبات، وصارت قضية تهنئة الأقباط بالعيد مسألة محرّمة عند هذا التيار، يتصدى لها دعاة يظهرون على شاشات الفضائيات بلباس سعودي، وسمت سعودي، ونسبة للمدرسة الفكرية السعودية.

هنا حدث نوع من التعانق والتعلق بين ما يقوم به الدعاة غير الأزهريين في مصر من كثير من أتباع الدعوة السلفية، وبين السعودية، واستقر في وعي أقباط مصر أن هذا هو فكر السعودية، وهذا هو فقهها، وهذا هو تدينها، وكأن السعودية هي التي دفعت عدماء الدين هؤلاء إلى أن يثيروا تلك الفتن.

قرارات ومواقف كثيرة صدرت عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان منذ توليه مناصبه السياسية لاقت صدى واسعا واعتبرت دلالات مهمة على التغيير الذي يقوده بن سلمان، لكن زيارته إلى الكاتدرائية القبطية في القاهرة ولقاؤه الحبر الأكبر في هيكل الكنيسة المصرية البابا تواضروس يظلان أحد أهم المواقف ذات الدلالة، والتي لن ينساها المصريون، أقباطاً ومسلمين، بل لن تنساها أيضاً تلك الجماعات الإسلامية المتشددة التي اعتبرت أن التوجهات الفكرية الدينية في السعودية إنما تتطابق معها، ومن بين هذه التوجهات الموقف الشديد السلبية، بل المعادي للمسيحية.

وكما قال الدكتور كمال زاخر، الكاتب والمفكر القبطي، فإن زيارة الأمير محمد بن سلمان للكاتدرائية المصرية تحمل ردا على المتشددين؛ إذ إن السعودية لا يمكن المزايدة على إسلامها باعتبارها منبع الدين الإسلامي كما أنها متفردة بالمقدسات الإسلامية، وعندما تمد يدها لمصافحة الأقباط فإن ذلك رد على المتشددين الذين يحرمون مثل هذا الأمر ويستهدفون الأقباط، فضلاً عن التعبير عن الجيل الوسطي وصعوده مرة أخرى في مقابل اندثار فئة المتشددين فكريا.

إذن القراءة الموضوعية لهذه الزيارة تؤكد أنها تأتي تأكيدا لسياسة الانفتاح والمتغيرات السياسية التي شهدتها المملكة السعودية في الآونة الأخيرة بعد تولي محمد بن سلمان ولاية العهد السعودي، الذي يؤكد من خلال زيارة الكاتدرائية أن التغيير والانفتاح اللذين طرآ على مجالات الفكر والثقافة والفن بالسعودية مبنيان على قناعة تامة.