ظنت ثلة الصحافيين الذين ظهروا على كاميرات محطة La7 التلفزيونية ليلة الانتخابات الإيطالية لدقيقة أنهم قد يرون ماتيو سالفيني يعتلي المنبر في ميلانو، لكن زعيم رابطة الشمال، التي أصبحت فجأة أكبر حزب يميني في البلد، لم يظهر حينذاك في ساعات الليل الأخيرة قبل صباح يوم الاثنين، وبدلاً من ذلك قرأ النائب المخضرم في البرلمان الأوروبي لورنزو فونتانا تصريحاً مقتضباً دام دقيقتين، فشكّل هذا أول إعلان نوايا من حزب حظي بلحظات عابرة قبل تحقيقه الانتصار الانتخابي. قال فونتانا: "تشكّل هذه إشارة واضحة إلى كل تلك القوى التي ظنت أنها تستطيع إبقاء الشعوب الأوروبية في قفص. ما هذه إلا البداية بالنسبة إلينا". تجلى الخراب في الحال، فقد انهار اليسار مع أنه ظل القوة الثالثة في البرلمان، مما يتيح له تأدية دور مهم في تعيين الحكام، أما اليمين الوسطي الذي تمثّل منذ تسعينيات القرن الماضي بشخص سيلفيو برلوسكوني، فأظهر أيضاً أن صلاحيته الانتخابية قد انتهت وستذهب حصصه الآن إلى سالفيني، لكن الانتصار الأكبر كان من نصيب حركة النجوم الخمسة بعد تخطيها المرحلة العقائدية، وما كانت هذه الحركة لتحظى بالأكثرية الواضحة في النظام الانتخابي الإيطالي السابق، ولكن في هذه الانتخابات، نافست حركة النجوم الخمسة كحزب منفرد في نظام يقوم على التحالفات وفازت بأكثر من 30% من الأصوات، وفي تناقض واضح مع رفضها المزعوم الائتلافات البرلمانية في مرحلتها الباكرة الأكثر تشدداً، أعلنت هذه الحركة أنها منفتحة على أي ائتلاف حاكم، ويُعتبر بروز حركة النجوم الخمسة في هذا العقد إحدى القصص الأكثر أهمية التي لا تزال تتطور في السياسة الأوروبية.

Ad

الانقسام الجغرافي

تعكس الخريطة الانتخابية قصة واضحة، إذ سيطرت حركة النجوم الخمسة على الجنوب، وخصوصاً صقلية، في حين هيمن الائتلاف اليميني على الشمال، ويبدو هذا الانقسام في إيطاليا أكثر بروزاً من الانقسام في الولايات المتحدة بين الولايات الزرقاء والحمراء، ويمتاز هذا البلد منذ تأسيسه بالتباعد السياسي والثقافي الجلي بين الشمال الصناعي والجنوب الإيطالي المنتزَع من سيطرة آل بوربون (إسبانيا). صحيح أن هذا الميل القوي إلى الإقليمية ودعم النزعة الانفصالية يشهدان تقلبات كبيرة، إلا أنهما لا يزولان مطلقاً، ولا شك أن نهوض حركة النجوم الخمسة وتحولها من حركة قائمة على لقاءات عابرة ومناسبات ترتكز على مواضيع تافهة إلى كيان منظّم محترف يقود راهناً القوة السياسية الكبرى في البلد مذهل بالتأكيد. والمذهل أيضاً إعادة ماتيو سالفيني بناء حزب (رابطة الشمال) فقدَ أهميته السياسية في إيطاليا بعد تورطه بفضيحة، وأعاد سالفيني تصوير هذه الرابطة كحزب وطني، ولكن لا يمكننا أن ننسى أن ما يشكّل اليوم الحزب الأكبر في اليمين الإيطالي أُسس في أواخر الثمانينيات كاتحاد حركات تطالب باستقلال الشمال الإيطالي، ولا شك أن انفصالاً سياسياً جديداً بين الشمال الأزرق والجنوب الأصفر سيكون له تداعيات في المستقبل تتخطى مَن يمسك بزمام السلطة في روما.

وسواء برهن هؤلاء الوافدون الجدد على السياسة الإيطالية أنهم سيحظون بقوة دائمة أم لا، تبقى الرسالة التي وجهتها قاعدة انتخابية أوروبية أخرى حالكة، فقد دعم الناخبون كتلتين سياسيتين كبريين، وأيدوهما عن قناعة، وعلى غرار التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تحوّلت الهجرة إلى موضوع مهم في أسابيع الحملة الأخيرة، في حين ظل الاستياء حيال الوضع الاقتصادي مسألة بارزة طوال هذه الحملة. لم تقدّم الأحزاب الأخرى على هامش اليمين واليسار أداء جيداً رغم التغطية الإعلامية الكبرى التي حظيت بها، فالقوى السياسية المنتصرة تحظى في الوقت الراهن بدعم الناخبين.

لم يُحدَّد بعد شكل الحكومة في روما، وما زال ممكناً تحويره ليظل الوضع على حاله، ولكن بعد سلسلة من الانتخابات في أوروبا، نرى نمطاً واضحاً: من سيطرة ماكرون في فرنسا إلى الأداء العالي الذي قدّمه السنة الماضية حزب العامل بقيادة كوربين في المملكة المتحدة أو البديل من أجل ألمانيا، نلاحظ أن الأحزاب الجديدة والأفكار القديمة المعادة صياغتها تحظى بإجماع أكبر في شتى المناطق. قد لا يروق للمسؤولين في بروكسل ما قد يقوله نواب لويجي دي مايو أو ماتيو سالفيني، ولكن من الضروري أن يعيدوا هم ضبط مقاربتهم الخاصة.

* جويل ويكجنانت

* «ريل كلير بوليتكس»