لن نتحدث عن سوء الإدارة ولدينا منها نماذج لا حصر لها، كما لن نتحدث عن الفساد الضارب في العمق، ولكن ربما عما هو أكثر فداحة، وهو العملية التشريعية التي صارت عملية فوضوية، وبدلاً من صدورها عن سُلطة تشريعية تحولت بموجبها إلى سَلَطَة تشريعية (بفتح السين واللام وكذلك الطاء). ونقول السلطة التشريعية لأن مجلسنا الموقر يتشكل من نواب منتخبين ووزراء معينين، وبالتالي هي مسؤولية مشتركة. والحديث المرسل الآن عن مزيد من تقليص الحريات وتحجيم سلطة القضاء بالقانون، يأتي في ذات السياق. فكما أن الحكومة تتحمل المسؤولية الكبرى عن ذلك الاستهتار التشريعي، فإن عدداً كبيراً من النواب شركاء في الذنب، ولا يحق لهم الحديث عن تدهور الحريات، وهم الذين أسهموا باستجواباتهم ومداخلاتهم القانونية في تراجع صورة الكويت. ونأتي بمثال واحد في هذا الصدد، وهو تحويل تظاهرة ثقافية رائعة بحجم معرض الكتاب إلى ما يشبه معرضاً للأواني المنزلية، وربما أقل من ذلك، في حين صارت الممنوعات "مسموحات" في معارض دول الخليج ذات الهامش الأقل في الحريات.

أمثلة السقطات التشريعية كثيرة، ولا بأس أن نأخذ منها شيئاً يسيراً للتذكير فقط؛ ففي مجلس فبراير ٢٠١٢ والذي كان يسمى مجلس الأغلبية، والذي جاء في إطار حراك شعبي أسقط رئيس وزراء، كان أبرز قانون أصدروه، وبتواطؤ كامل من الحكومة هو "إعدام المسيء"، الذي جاء كردة فعل، وهو ما لا ينبغي لمجلس تشريعي محترم وحكومة رشيدة أن يقترفاه؛ فالتشريع يأخذ مجراه بالدراسة والتأني، وتوخي اتساق التشريع مع الدستور، ولولا أن الله سبحانه قيض لهذا البلد أمير البلاد، الذي استخدم حقه الدستوري برد القانون مبيناً مثالبه الدستورية لكان كل المحكومين أو الذين ينتظرون النظر في دعاواهم الخاصة بالرأي مهددين بالإعدام.

Ad

أما الثانية فكانت ذلك القانون المعيب المناقض للدستور المسمى بالبصمة الوراثية، والذي استُغِلت فيه أحداث تفجيرات مسجد الصادق لتمريره بحجة الحفاظ على الأمن خلال ٤٨ ساعة فقط، فهل هذا أسلوب تشريع؟! وبعد أن وقعت الفاس بالراس واتضحت سوأة القانون بادر سمو الأمير إلى فعل غير مسبوق بتوجيه علني لرئيس الوزراء بتعديل القانون بما يتسق مع مبادئ الدستور، وخصوصية الأفراد وأمن البلاد. وفي ذات السياق، اعتذر رئيس مجلس الأمة صراحة للشعب الكويتي عن القانون. وفي الحالتين صمتت الحكومة والنواب صمت القبور، بلا حتى اعتذار على سبيل أضعف الإيمان.

أما ثالثة الأثافي فقد كانت تخفيض سن الحدث من ١٨ سنة إلى ١٦ سنة لأسباب سياسية، وكان ذلك نموذجاً للاستهتار التشريعي. فمجلس الأمة والحكومة نفسهما، كانا قد أصدرا قانوناً جيداً لحماية حقوق الطفل يؤكد سن الحدث بـ١٨ سنة. لم يطل بنا الأمر، وبعد تحرك من داخل وخارج المجلس تمت إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وعاد الحدث إلى وضعه المتفق عليه وهو ١٨ سنة. من المسؤول عن هذا العبث الواضح للعيان؟ نقول ذلك ونحن نشهد تحركات لبناء ترسانة قوانين معادية للحريات في طريقها للاستكمال، من خلال التذاكي على أفهام الناس من خلال صياغات مطاطة، بالإمكان استخدامها ضد الخصوم. هكذا من المفيد قراءة الهجمة "القانونية" القمعية القادمة من القرون الوسطى، والتي لا تصلح بالتأكيد لبلد يفترض أن له دستوراً يحمي حرية الناس وحقهم في التعبير، وحتى التدخل في السلطة القضائية. يبدو أن هناك بذرة قمع تدور في أروقة الحكومة، كلما طمسها الزمن أو الظروف عادت إلينا بثوب جديد. نحن في زمن القمع المنمق، بل نحن في زمن الاحتفال به وإعادة إنتاجه، بمسميات مختلفة.