في مطلع شهر يناير الماضي، كلفت الحكومة السورية وزير الإعلام الجديد عماد سارة "وضع استراتيجية إعلامية جديدة، تعمد إلى نقل حقيقة الحياة العامة في البلاد بعد الانتصارات التي تحققت، وتوفر آليات تواصل مع العالم الخارجي".

تريد سلطة الرئيس بشار صياغة استراتيجية إعلامية جديدة إذاً، وهي تعتقد أن ثمة ما يمكن أن تنطوي عليه تلك الاستراتيجية من فرص تحسن موقعها التفاوضي، في ظل الانتشاء بالتقدم الميداني، الذي تصنعه عمليات عسكرية، لم تتوقف رغم ورشة المفاوضات الدائرة لصنع تسوية سياسية.

Ad

لكن الأوضاع التي تعيشها المنظومة الإعلامية السورية في الداخل لا تبدو ناضجة لأي تأطير استراتيجي؛ إذ يبدو الإعلام الرسمي، كما كان دائماً، ذراعاً دعائية بائسة للنظام، في ظل انقطاع تام عن المعايير المهنية من جانب، وعوز مستديم لموارد صناعة الإعلام واستحقاقاتها الإدارية والمالية والبشرية من جانب آخر.

لقد ظل الإعلام الرسمي السوري، على مدى نحو نصف القرن، بعيداً عن أي صيغة تضمن حداً أدنى من شروط استيفاء مقتضيات "الخدمة العامة الإعلامية"، التي تقدم محتوى إعلامياً يتسم بدرجة من الاستقلالية والموضوعية والتوازن لجمهور يتسع وتتزايد حاجاته الإعلامية، ويحظى بفرص للتعرض إلى منظومات إعلامية بديلة.

ليس هذا فقط، لكن الاعتذار المثير للاهتمام الذي صدر عن إحدى الإعلاميات العاملات بالتلفزة العامة، عن عدم قدرتها على الاستمرار في الإنفاق على جهودها في التواصل مع المصادر، لتأمين ضيوف لأحد برامجها، كان بمنزلة تجسيد للحالة الإدارية والمالية المتردية لتلك المنظومة.

وقبل اعتذار تلك الإعلامية، كان وزير الإعلام السابق محمد رامز ترجمان نفسه قد أقر بـ"إفلاس التلفزيون"، وعجزه عن توفير ملابس للمذيعين، قبل أن تكشف صحيفة "الوطن"، المقربة من النظام، فضيحة اتهام أحد المحللين دائمي الظهور على شاشات التلفزة العامة بأنه "رئيس شبكة لتزوير الشهادات الجامعية".

بسبب الأوضاع السياسية التي مرت بها سورية عشية فترة الانتفاضات العربية وأثناءها، بدا الإعلام السوري المملوك للدولة عاجزاً عن الوفاء بدوره، إذ تحول إلى أداة دعائية للنظام، ولكي يتمكن هذا الإعلام من تطوير بنيته وأدائه، فعليه أن يتحرر من سيطرة الحكومة الراهنة، أو أن يخضع لعملية إصلاح مركزة، تستهدف تغيير خطه التحريري، وتعيين قيادات شابة تتميز بالكفاءة، وتطوير أدواته التقنية، وتعزيز التزامه بالمعايير المهنية، وهو أمر يبدو بعيد المنال.

لقد ظل الإعلام العام السوري أنموذجاً شديد الوضوح على الأحادية والانغلاق والتوجه الدعائي والانقطاع عن القيم المهنية، رغم انطوائه على الكثير من الإعلاميين الأكفاء، وها هو يغرق في المزيد من الفضائح الكاشفة، ويعلن عجزه مالياً وإدارياً عن أداء وظيفته الأساسية، التي هي مسوغ وجوده.

في مقابل تلك المنظومة المتهالكة، والتي تبدو بلا أفق ولا عوامل استدامة، تبرز منظومة أخرى جديدة، يمكن وصفها بـ"الإعلام البديل".

و"الإعلام البديل" عبارة عن عدد كبير، يصعب جداً حصره، من وسائل إعلام متفاوتة الحجم، صدرت خارج البلاد، وفي مناطق داخلها غير خاضعة لسلطة الحكومة، تعبيراً عن جماعات أو مصالح سياسية مناهضة لنظام الرئيس بشار.

يقول الإعلاميون السوريون الذين يعملون في تلك الوسائل إنهم يريدون "التحرر" من "طغيان" نظام بشار الأسد، وكسر الانغلاق الإعلامي المهيمن على الأوضاع في بلادهم لنحو خمسة عقود، والخروج من أسر الماضي الاستبدادي إلى فضاء أوسع وإعلام حر.

وينتقد هؤلاء بشدة أداء وسائل الإعلام المملوكة للدولة، ويعتقدون أنها سبب رئيس في قرارهم بالعمل لوسائل إعلام بديلة، حتى لو كانت تمول من دول تناصب الحكومة السورية العداء.

إن بعض هؤلاء الإعلاميين السوريين الجدد أتى من وسائل إعلام يمتلكها النظام، ومعظمهم بدأ للتو تجريب حظه في ممارسة مهنة الإعلام، وأغلبهم يرى أن الأوضاع الإعلامية السورية الراهنة مبشرة وتعد بالأمل، إذا ما تمت مقارنتها بالأوضاع "المأساوية" السابقة.

ينخرط هؤلاء الإعلاميون السوريون الجدد في العمل في وسائل إعلام مطبوعة ومسموعة ومرئية وإلكترونية جديدة، يبلغ عددها العشرات، وتتكاثر كالفطر، ويصدر بعضها، ثم يتوقف عن الصدور، ثم يصدر مرة أخرى، أو يندثر.

يعتقد معظم هؤلاء الإعلاميين أن تلك الوسائل يمكن أن تشكل صناعة إعلام قابلة للاستدامة والازدهار، والوفاء بحقوق الجمهور، في مجتمع حر يمر بمرحلة انتقال ديمقراطي، في حال سقط النظام.

لكن ثمة تحديات كبيرة تواجهها تلك الصناعة، وهي تحديات قد تعوق تطور المجال الإعلامي السوري، وقد تحرفه عن قيم العمل الصحافي الرشيد، وتحرمه من فرص الاستدامة والازدهار.

بسبب حسها الثوري، وانتمائها السياسي، تفقد تلك الوسائل الإعلامية الجديدة قدرتها على انتهاج أساليب مهنية في العمل، وفي مقابل الانحياز الحاد لوسائل الإعلام المملوكة للدولة السورية، تمارس تلك الوسائل الجديدة انحيازاً لا يقل حدة في الاتجاه المضاد.

مشكلة أخرى تبرز في أداء تلك الوسائل، إذ لا يهدف معظمها إلى تحقيق الربح، أو حتى الوصول إلى نقطة التوازن لمعادلة النفقات، لكنها بالطبع تسعى إلى إحداث أثر سياسي، يتعلق برؤيتها لما يجب أن تكون عليه الأوضاع في سورية، وبالتالي فهي لا تقيم وزناً لاعتبارات الصناعة وضمان الجدوى الاستثمارية، طالما أن أهدافها السياسية تتحقق، وهنا يتعمق الأداء الدعائي لها، وتفقد صلتها شيئاً فشيئاً بقيم العمل الإعلامي.

كثير من العاملين في تلك الصناعة الجديدة في سورية وخارجها ليسوا من الإعلاميين، ومعظمهم ناشطون أو سياسيون أو مقاتلون، وهم دخلوا الإعلام من باب "الثورة"، أو "الجهاد"، أو القتال، وهم يريدون أن يستخدموا تلك الوسائل الممولة تمويلاً جيداً في تحقيق أهدافهم السياسية، لا في إعلام الناس أو تنويرهم.

غالبية الأموال التي يتم ضخها في تلك الصناعة غير معلومة المصدر، وهناك دول إقليمية وأجنبية كثيرة تستثمر في هذا المجال. الاستثمار هنا لا يستهدف تحقيق الجدوى، وبالتالي لا يضمن كفاءة المنتج، ولا يُخضع الأداء للتقييم المهني، لكنه يريد الناتج السياسي، وهو أمر يعمق مشكلات تلك المنظومة، وتبدو سورية تائهة بين إعلامين؛ أحدهما صنيعة "الاستبداد"، وثانيهما صنيعة "الثورة".

* كاتب مصري