عندما تعرض الشعب الفلسطيني للتهجير والنكبة عام 1948، ووجد مئات الآلاف أنفسهم في حالة فقر مدقع بعد أن فقدوا أراضيهم وبيوتهم ومحلاتهم ومصانعهم، وجه الفلسطينيون أبناءهم وبناتهم إلى التعليم فأبدعوا، وغدوا بناة لدول ومؤسسات كثيرة في المنطقة بأسرها، وحموا في الوقت نفسه عائلاتهم من شظف العيش وقسوة الفقر والتشرد، أما من بقوا في فلسطين الداخل فقد أدركوا بسرعة أن صمودهم في وجه التمييز العنصري وبقاءهم في وطنهم يتطلبان أن يوجهوا أجيالهم الشابة نحو التعليم.

ومنذ وقع الاحتلال للضفة والقطاع كان إنشاء المؤسسات الصحية والتعليمية والجامعات من أهم أشكال الصمود والمقاومة في وجه الاحتلال، وعندما أغلق الاحتلال خلال الانتفاضة الشعبية الأولى الجامعات والمدارس صار التعليم الشعبي، رغم أنف الاحتلال، نموذجاً للمقاومة الشعبية، غير أن التعليم لا يمكن أن يكون فعالا أو مقاوما ما لم يكن نوعيا.

Ad

وأكثر ما يقلقنا في هذه الأيام الحديث المتكرر حول تراجع نوعية التعليم، وكيفية ضمان أن يكون التعليم وخصوصا التعليم الجامعي نوعيا لا مجرد عملية تراكم كمي، فهناك ظاهرة عالمية لا تقتصر على فلسطين، بسبب انحسار تمويل الجامعات وهيمنة الأساليب الرأسمالية الاستهلاكية، تجعل الهم الرئيس منصبا على تأمين الموارد وبالتالي على رفع أعداد الطلبة في الجامعات على حساب النوعية.

وينشأ هنا سؤال مشروع حول مدى ملاءمة الكليات وفروع التعليم الجامعي الجديدة التي يجري إنشاؤها لفرص العمل، حتى لا يتحول التعليم إلى جسر نحو البطالة، وما يقلقنا أكثر أن التحسن النوعي في سياسة وصياغة أساليب التدريس المدرسي والجامعي بالتركيز على البحث العلمي والأبحاث كمتطلب للنجاح، يترافق مع انتشار ظاهرة خطيرة اسمها دكاكين البحث، التي تبيع الأبحاث جاهزة للطلاب، ليقوموا بتقديمها لأساتذتهم ومعلماتهم.

وذلك أمر خطير ليس لأنه يعزز في المجتمع قيما خطيرة ومفسدة فقط، بل لأنه يحول التعليم من وسيلة لبناء إنسان مبدع ومقاوم إلى وسيلة لخلق مخادعين لا يثقون بأنفسهم، ويبحثون عن أسرع الوسائل للكسب السريع دون اعتبار لمصالح الآخرين أو مصالح وطنهم.

فشراء البحث العلمي هو شكل من أشكال الفساد، وتقديمه كإنجاز مزيف يعزز قيم الخداع والغش، كما يشجع مرتكبيه على أن يكونوا كسالى وغير مبدعين وباحثين عن الإنجاز بأقصر وأدنى الطرق، على حساب زملائهم الذين يتعبون في إنجاز عملهم.

إجراء البحث العلمي يعلم الطالب أن يحترم نفسه، وأن يحترم جهود الآخرين، ويشجعه على تبني مفهوم الإتقان والإخلاص في العمل، وهو أمر نحتاجه كثيرا إن أردنا أن نحقق الحرية لشعبنا، وأن نبني له وطنا، ولأبنائه مستقبلا.

سرقة الأبحاث ونسخها أمر خطير يجب أن تتصدى له المؤسسة التعليمية بكل قوة، فمن يسرق بحثا يمكن أن يسرق عمل الآخرين في المستقبل، بل أن يسرق مقدرات بلده إن كان في موقع مسؤول.

التعليم هو شكل من أشكال المقاومة والصمود فعلا، شريطة أن يكون نوعيا وصادقا، ومنتجا لجيل صادق وقادر.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية