بسرعة البرق كشفت وزارة الداخلية عن سوابق الشاب "البدون" الذي أقدم على حرق نفسه أمام محكمة الجهراء، وحصرت 21 جريمة متنوعة للرجل تشمل معظم أشكال العنف الذي يهدد أركان المجتمع، ليعود لهب موضوع البدون للاشتعال مجدداً على الساحة المحلية وبكل معاناة وآلام ومخاطر هذه القضية التي لا تزال تتدحرج في دهاليز السياسة منذ أكثر من خمسين سنة.

إذا تركنا البعد الإنساني في مأساة هذا الشاب البدون، رغم أهميته حيث إنه بشر كفلت له الشرائع الدينية والقوانين الطبيعية والمبادئ الإنسانية جميع مقومات العيش الكريم، وكل ما ينشده من أحلام وطموحات، كأي فرد منا بل في هذه الدنيا الرحيبة، ولكن يبدو أننا فقدنا الحس الإنساني في هذا البلد الذي بات حتى مواطنوه يتعرضون للتضييق والإهانة والملاحقة سواءً عن طريق التشريعات المقيدة للحريات أو على الصعيد الواقعي، ومن ذلك ما نراه خلف القضبان وانتهاءً ببروز ظاهرة اللجوء السياسي للكويتيين في الخارج.

Ad

الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية دخل عامه الثامن، وكان من المفترض حسم هذا الملف خلال خمس سنوات من إنشائه عام 2010، وهذا الجهاز ورث مجموعة من الأجهزة والإدارات والهيئات السابقة التي فشلت جميعاً في تقديم معالجة إنسانية- قانونية- وطنية شاملة لهذا الموضوع الذي يكبر مع الوقت ككرة ثلج، وحتى التصريحات الرسمية لهذا الجهاز الخاصة بشأن من محصت ودققت بياناتهم من شريحة البدون ممن تنطبق عليهم شروط التجنيس سرعان ما يتم لحسها وتجاهلها دون حتى الشعور بالمسؤولية إزاء الحقوق المهدورة لهؤلاء المستحقين بحسب تقييم الأجهزة الرسمية في الدولة.

حادث انتحار البدون أمام ملجأ العدالة وسلطان القانون المتمثل بمبنى المحكمة رسالة مدوية لهذا الشاب، وإن اعتبر مجرماً في نظر الجهات الأمنية، ومثل هذا الحادث سواء تعاطف معه البعض أو غضب منه البعض دلالة منطقية على أن تجاهل قضية البدون هو بحد ذاته مشروع ولادة "مجرم"، فجميع التهم التي ذكرتها وزارة الداخلية بحق هذا الشاب من تهديد بالقتل أو السرقة أو العنف ضد الآخرين نتيجة طبيعية للحرمان، فالحرمان من التعليم والحرمان من الوظيفة والمصاحب بضغط اجتماعي وأمني شديد لا يعني سوى ضياع المستقبل واللجوء إلى أسهل الطرق، ولعل أخطرها من أجل البقاء، وبما أننا نعيش في هذا البلد بحالة من الرفاهية النسبية وموفور النعم، فبالتأكيد لا نعرف تفاصيل الحياة اليومية لأسرة هذا الرجل، وغيرها من آلاف العوائل، كيف تعيش وكيف تؤمّن الطعام لأطفالها وأين تعالج مرضاها، وهل تقضي ليلها في سبات مع التدفئة أو تحت تبريد التكييف، ومن أين مصدر رزقها، بل ما هو مستقبلها؟ دولة الكويت تتمتع بسجل حافل في البعد الإنساني على الصعيد الرسمي والشعبي، ولكن مع كل الأسف فإن معظم هذا الخير للخارج، وإن كان مستحقاً، أما في الداخل فهناك مآسٍ قد لا تتطلب جهداً كبيراً في رؤيتها مباشرة حيث تقطن الكثير من العوائل المصنفة بالبدون، والتي تصيبك بالدهشة والذهول.

رغم ذلك كله تصر الحكومة على معالجة هذا الملف من منظور أمني بحت، وبالتأكيد النار هي نتيجة وتبعات ذلك، فقد قالها إمام المتقين علي بن أبي طالب (ع): عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج شاهراً سيفه على الناس!