كل شيء يسير كما هو متوقع، ففي حين تحاول سوق الأسهم الأميركية جاهدة العودة بعد التصحيح الحاد في أوائل فبراير، يعود الشعار الغبي حول السوق الصاعدة الكبرى، والآن يوصف التصحيح الأخير بأنه انحراف عابر- صدمة تقلب- في إطار ما لا يزال يُعَد مناخا استثماريا ملائما للغاية، ووفقا لهذه الحجة فإن الأساسيات الاقتصادية- ليس في الولايات المتحدة فقط بل أيضا في مختلف أنحاء العالَم- لم تكن بهذه القوة منذ فترة طويلة للغاية.

لكن هل الأساسيات سليمة إلى هذا الحد حقا؟ في اقتصاد الولايات المتحدة الذي يحتفظ بوسادة رقيقة للغاية من الادخار، لا شيء قد يكون أبعد عن الحقيقة من هذا، ذلك أن صافي معدل الادخار الوطني في أميركا- مجموع مدخرات الشركات والأسر والقطاع الحكومي- لم تتجاوز 2.1% من الدخل الوطني في الربع الثالث من عام 2017. ويعادل هذا ثلث المتوسط الذي بلغ 6.3% طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.

Ad

من الأهمية بمكان أن نفكر في الادخار بالأرقام «الصافية»، التي تستبعد إهلاك القدرة المهجورة أو البالية من أجل تقييم الكم الذي يجنبه الاقتصاد لتمويل التوسع في القدرة الإنتاجية، ويمثل صافي الادخار استثمار اليوم في المستقبل، والنتيجة النهائية بالنسبة إلى أميركا هي أن مدخراتها تكاد تكون صِفرا.

من المؤسف أن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، فلتمويل الاستهلاك والنمو، تقترض الولايات المتحدة المدخرات الفائضة من الخارج للتعويض عن العجز المحلي، وينطوي كل هذا الاقتراض على عجز ضخم في ميزان المدفوعات مع بقية العالَم، والذي يولد عجزا تجاريا ضخما بالقدر نفسه، ورغم أن إدارة الرئيس دونالد ترامب غير مسؤولة عن هذه الحالة المحزنة، فإن سياساتها توشك أن تزيد الموقف سوءا على سوء.

تحت ستار الإصلاح الضريبي، وقع ترامب على تشريع من شأنه أن يزيد عجز الموازنة الفدرالية بنحو 1.5 تريليون دولار على مدار السنوات العشر المقبلة، والآن تسبب الكونغرس بحكمته المطلقة في زيادة التكلفة بنحو 300 مليار دولار إضافية في أحدث صفقة لتجنب تعطيل الحكومة، ناهيك عن أن الإنفاق بزيادة العجز أمر غير منطقي عندما يقترب الاقتصاد من التشغيل الكامل للعمالة: فإن هذا التوسيع الحاد لعجز الموازنة الفدرالية كاف في حد ذاته لدفع صافي معدل الادخار الوطني المنخفض بالفعل إلى الصِفر. وليس المزعج في الأمر العجز المالي الحكومي وحده، فقد هبط معدل الادخار الشخصي إلى 2.4% من الدخل المتاح (بعد الضريبة) في ديسمبر 2017، وهو أدنى معدل في 12 عاما، ولا يتجاوز ربع المتوسط الذي بلغ 9.3% وظل سائدا على مدار العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.

مع استمرار الادخار المحلي في الانخفاض، تصبح الولايات المتحدة أمام خيارين: إما تقليص الاستثمار والنمو الاقتصادي الذي يدعمه، وإما زيادة الاقتراض من المدخرات الفائضة من الخارج. على مدار السنوات الخمس والثلاثين المنصرمة، لجأت أميركا إلى الخيار الثاني بلا انقطاع، فأدارت عجزا في ميزان المدفوعات كل عام منذ 1982 (باستثناء عام 1991، والذي يعكس المساهمات الأجنبية في النفقات العسكرية الأميركية في حرب الخليج). بطبيعة الحال، مع هذا العجز يأتي عجز تجاري مزمن بالقدر نفسه مع شريحة واسعة من شركاء أميركا الأجانب، وفي عام 2017، كانت الولايات المتحدة تدير عجزا تجاريا مع 102 دولة.

يمهد هذا العجز المتعدد الأطراف في التجارة الخارجية في الاقتصاد الأميركي الذي يعاني نقصا في الادخار، الساحة للخطأ السياسي الأكثر فداحة الذي ترتكبه إدارة ترامب: التحول نحو تدابير الحماية، ويؤدي المزيد من الضغط على الموقف الادخاري المحلي الضعيف بالفعل إلى تزايد عجز الحساب الجاري وتفاقم العجز التجاري، وهو مبدأ أساسي في الاقتصاد الكلي يبدو أن الولايات المتحدة لم تقدره حق قدره قط.

من الواضح أن محاولة حل اختلال التوازن المتعدد الأطراف بالاستعانة بتعريفات ثنائية موجهة في الأساس نحو الصين، كتلك التي فُرِضَت في يناير على الألواح الشمسية والغسالات، ليست منطقية، ونظرا لتزايد احتمالات نشوء حواجز تجارية إضافية- كما تقترح توصيات وزارة التجارة الأميركية الأخيرة بفرض تعريفات جمركية عالية على الألمنيوم والصلب- تتحول هذه التركيبة التي تتألف من تدابير الحماية واختلال التوازن التجاري المتزايد الاتساع إلى معضلة أشد صعوبة في مواجهة الاقتصاد الأميركي الذي من المنتظر أن يصبح أكثر اعتمادا على رأس المال الأجنبي، وبعيدا تماما عن كونها سليمة، تبدو أساسيات الاقتصاد الأميركي الذي يفتقر إلى الادخار أشد تداعيا من أي وقت مضى.

ومع الافتقار إلى الدعم القوي الناجم عن توليد الدخل يُفضي الافتقار إلى الادخار أيضا إلى جعل الولايات المتحدة مدينة لأسواق الأصول المتقلبة بقدر أكبر كثيرا مما كانت لتصبح عليه الحال لولا ذلك، ويصدق هذا بشكل خاص على المستهلكين الأميركيين الذين اعتمدوا على ارتفاع قيم حقوق الملكية والمساكن لدعم أنماط حياة مفرطة في الإسراف. وهي أيضا حال بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي نفسه، الذي لجأ إلى سياسات نقدية غير تقليدية لدعم الاقتصاد الحقيقي من خلال ما يسمى تأثيرات الثروة. وبطبيعة الحال يشعر المستثمرون الأجانب بحساسية شديدة إزاء العائد النسبي على الأصول- الولايات المتحدة في مقابل أسواق أخرى- فضلا عن ترجمة هذه العائدات إلى عملاتهم المحلية.

تحت الضغوط التي يفرضها زخم اتجاهات تشغيل العمالة، والإنتاج الصناعي، ومشاعر المستهلكين، وأرباح الشركات، تتحول الحجة بشأن الأساسيات السليمة إلى شيء أشبه بالأسطوانة المشروخة خلال فترات التقلب في الأسواق المالية. لكن الزخم والأساسيات يعبران عن شيئين مختلفين تمام الاختلاف، فقد يكون الزخم عابرا، وخصوصا في الاقتصاد الأميركي الذي يعاني نقص الادخار والذي يستهلك مقومات الازدهار في المستقبل. وفي ظل السياسات المختلة التي تشير إلى المزيد من تقلص المدخرات في السنوات المقبلة، لم تكن أسطورة الأساسيات السليمة في الولايات المتحدة أكثر زيفا وخداعا مما هي عليه الآن قَط.

* ستيفن س. روتش

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس مورغان ستانلي في آسيا سابقا، وهو مؤلف كتاب «علاقة غير متوازنة: الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين».

«بروجيكت سنديكيت، 2018»

بالاتفاق مع «الجريدة»