ذكرت في المقال السابق أبرز القضايا التي ينبغي مراجعتها وفق فهم جديد يتسق ومواثيق حقوق الإنسان ودولة المواطنة ومقاصد الشريعة وثوابتها، مثل: تصحيح النظر إلى المرأة وإلى الآخر، وتصحيح رؤيتنا إلى العالم، وأضيف هنا، القضايا الحيوية الآتية:

1- تحصين شبابنا ومجتمعاتنا من آفات الفكر المتطرف: لقد أخفق الخطاب الديني في حماية مجتمعاتنا وشبابنا من وباء الفكر المتطرف الممهد للإرهاب، في حين نجح الخطاب المتطرف للتنظيمات الإرهابية في تجنيد الآلاف من شبابنا على امتداد الساحة الإسلامية وأوروبا وآسيا وأستراليا، وما ذلك إلا لأن الخطاب انغمس في قضايا الصراع السياسي والحزبي، أو التحريض على كراهية الآخر، والدعاء عليه بالهلاك، أو اتهام المفكرين وأصحاب الفرق الأخرى بالكفر والضلال، بل إن جانباً من هذا الخطاب، الذي سمي (صحوياً) أوجد مناخاً متعاطفاً مع الفكر القاعدي وزعيمه، نكاية في الغرب وأميركا، وتحت شعار "مرحباً بالإرهاب من أجل استرداد كرامة الأمة"، وباسم هذا الشعار تم تسويغ تفجير الذات في المدنيين والأطفال!! وكل ذلك بعيداً عن قوله تعالى "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" وغفل الخطاب السائد عن تحبيب شبابنا في الحياة، وتوظيف طاقاتهم في ميادين الإنتاج والعمل والتعليم والاكتشافات والابتكار والإبداع، من أجل نهضة مجتمعاتهم.

Ad

فتغلب خطاب داعية الموت والتسابق إلى ميادين الهلاك تحت زعم "الجهاد"، ومن هنا على الخطاب الجديد تبني أن الجهاد الحقيقي هو "الجهاد الحضاري"، جهاد التنمية والبناء والإنتاج والصناعة والإعمار، وبناء القوة الذاتية والاستقلال الاقتصادي والسبق في ميادين النهضة والتقدم والغزو المعرفي والعلمي والتقني، وعلى دولنا أن تترجم هذا النهج الجديد للجهاد الحضاري في مناهجها التعليمية للناشئة، كفانا قتلاً وتدميراً وإهلاكاً للحرث والنسل، لقد آن الأوان لتجاوز خطاب التحريض إلى خطاب التنوير، إلى خطاب جديد يوجه طاقات شبابنا فيما ينفعهم وينفع مجتمعاتهم وينفع دينهم.

2- الخروج من التخندق المذهبي والديني إلى الفضاء الإنساني الرحب لتعزيز المشترك الديني والمذهبي: طيب الله تعالى ذكرى زمن سئل فيه إمام التقريب بين المذاهب الإسلامية، شيخ الجامع الأزهر، الشيخ محمود شلتوت، هل يجب على المسلم أن يقلد أحد المذاهب السنية الأربعة، وليس من بينها، مذهب الشيعة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يوجب الإسلام على أحد اتباع مذهب معين، بل لكل مسلم الحق في أن يقلد أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، ولمن قلد مذهباً أن ينتقل إلى غيره ولا حرج عليه، وإن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة.

هكذا كان علماؤنا الأجلاء متسامحين، وهكذا كانت مجتمعاتنا في الماضي متسامحة دينياً ومذهبياً، وأقصد بالتسامح هنا قبول الآخر، بما هو عليه، وليس بالمعنى التراثي، التنازل عن الحق والعفو والمغفرة، لقد ملأ خطاب الكراهية دنيا المسلمين واستطال وهيمن، فأفسد ذات بينهم، وملأ نفوسهم بغضاً وعداوة، وجعل بأسهم بينهم، وفرقهم شيعاً وأحزاباً متنازعة، ومر زمن كادت مجتمعاتنا أن تتناسى جهود الأزهر الشريف في التقارب المذهبي، حتى ساق المولى تعالى من آلمته حال الأمة من فرقة وانقسام وتناحر وخصام، فنظم المجمع العراقي للوحدة الإسلامية المؤتمر التأسيسي للوحدة الإسلامية ببغداد، تداعى إليه نخبة من علماء المسلمين والمفكرين، وقد آلى على نفسه إحياء واستئناف جهود التعاون والتقارب بين المذاهب الإسلامية، هذا أمر يستحق التقدير والإشادة من كل العلماء والمفكرين، وهو الدور الذي ينبغي أن يضطلع به الخطاب الديني الجديد، وتتبناه المؤسسات الدينية وهيئات كبار علماء المسلمين.

ختاماً: على الخطاب الديني الجديد أن يحتضن الإنسان، لكونه إنساناً مكرماً من خالقه جل وعلا "ولقد كرمنا بني آدم". مسلماً أو غير مسلم، ذكراً أو أنثى، سنياً أو شيعياً، سلفيا أو متصوفاً، وأن يؤمن بأن اختلاف البشر: أدياناً ومذاهب ولغات وأجناساً وألواناً وثقافات، حكمة إلهية سامية، فلا يضيرني كوني مسلماً: اليهودي على يهوديته، والمسيحي على مسيحيته، والبهائي على بهائيته، والبوذي على بوذيته، لكن المطلوب مني التعايش مع الجميع لتحقيق المنافع المشتركة، وحسابهم جميعاً إلى المولى تعالى وحده ليوم الفصل "وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ".

* كاتب قطري