يوم الخميس الماضي كان الكاريكاتير الرئيس في صحيفة "المصري اليوم" القاهرية عبارة عن عنوان من كلمة واحدة هي "السياسة"، تتلوه مساحة كبيرة من الفراغ، الذي لا يقطعه سوى توقيع الرسام "عمرو سليم".

ربما لم يرسم هذا الرسام البارع أسهل من هذا الكاريكاتير خلال مسيرته المهنية؛ إذ إن الأمر لم يكلفه سوى عنوان، ومساحة بيضاء فارغة، ثم توقيع... ومع ذلك، فإن هذا الكاريكاتير السهل في رسمه، بدا حاداً وجارحاً في مغزاه؛ إذ لا يوجد تعبير أقسى على مصر وأنكى من وصف حياتها السياسية بـ"الفراغ".

Ad

إنها مفارقة نادرة في حياة الأمم والشعوب، فما بالك إذا كان الأمر يخص مصر، التي عرفت أول مجلس نيابي في المنطقة، في ستينيات القرن التاسع عشر، وحظي شعبها بدستور متقدم في عشرينيات القرن العشرين، قبل أن تصبح مركزاً لتفاعلات السياسة الإقليمية، ولاعباً معتبراً على الصعيد الدولي، في منتصف القرن نفسه.

إنها أيضاً مفارقة موجعة؛ إذ تبدو "صفحة السياسة بيضاء" في بلد شهد انتفاضتين نادرتين في التاريخ في أقل من ثلاث سنوات؛ إحداهما اعتبرها قادة ومفكرون عالميون "إلهاماً وصياغة للتاريخ"، وثانيتهما أنقذت شعباً تعداده يقارب المئة مليون من هلاك محتوم، وانتشلت دولة- اخترعت مفهوم الدولة وقدمته للعالم- من غياهب الضياع.

في اللحظة التي أُطيح فيها مبارك من الحكم، في هذا الشهر نفسه قبل سبع سنوات، لم يكن أحد يتصور، حتى في أسوأ الكوابيس، أن هذا الزخم السياسي غير المسبوق، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وظلت تطوراته الدقيقة عناوين في أهم وسائل الإعلام العالمية لشهور، يمكن أن يتحول ببساطة إلى "صفحة بيضاء".

لكن هذا ما جرى على أي حال؛ فمصر التي تستعد راهناً لإجراء الانتخابات الرئاسية بعد أسابيع، استطاعت بصعوبة أن توفر مرشحاً واحداً مغموراً لمنافسة الرئيس السيسي، الذي يسعى إلى الفوز بولاية رئاسية جديدة مدتها أربع سنوات.

إن هذا المرشح المغمور نفسه لا يمتلك أي تاريخ سياسي يؤهله لخوض تلك المنافسة، وهو أيضاً أحد عناصر معسكر الموالاة الواسع، وفي آخر تجلياته على صعيد النزال المفترض كان يقول إنه مؤيد للرئيس السيسي، وحينما سئل عن إمكانية مناظرته، قال بوضوح: "لا توجد مساحة أو مجال لمناظرة الرئيس... فإنجازاته لا يستطيع أحد إغفالها".

لا جناح على المرشح المغمور في كونه من مؤيدي الرئيس، وهو لا يستحق اللوم أو الانتقاد في حال رأى أنه "أقل قامة وقيمة" من مناظرة الرئيس، لكن السؤال يبرز هنا: "وما دعاك إلى منافسته؟".

لقد حدث هذا لأن الزخم السياسي الذي أفضى إلى الانتفاضتين أخفق في توفير مرشح رئاسي يخوض تلك المنافسة، بعدما كان لدينا ماراثون رئاسي في 2012، تنافس فيه المرشح "الإخواني"، مع المرشح "المباركي"، والمرشح "الناصري"، والمرشح "الليبرالي"، و"المرشح المنشق عن الإخوان"، والمرشح "اليساري"، وآخرين.

في تلك المنازلة التي أعقبت الانتفاضة الأولى، لم يستطع أي من المرشحين أن يحسم المنازلة من الجولة الأولى، وحينما خاض المرشحان الأقرب للفوز سباقاً بينهما في جولة الإعادة، كان الفارق بينهما ضيقاً وحرجاً بصورة واضحة.

لدى مصر أكثر من مئة حزب سياسي، تتوزع انتماءاتها من أقصى اليمين الديني إلى أقصى اليسار، وبينهما تعبيرات حزبية متباينة، لكن واحداً من تلك الأحزاب لم يكن بوسعه أن يقدم مرشحاً للمنافسة.

يقتضي الإنصاف القول إن ثمة عوامل موضوعية يمكن أن تفسر حالة الفراغ السياسي في مصر؛ بعض هذه العوامل يتصل بالتحدي الإرهابي الذي تواجهه البلاد، والذي يفرض حالة من التفاف المصريين حول دولتهم، وتمسكهم بقيادتهم، خصوصاً أن العمليات العسكرية تجري في الآونة الراهنة في سيناء، لتخليصها من عناصر إرهابية، امتد أثرها التخريبي إلى الوادي والصحراء الغربية.

إن العداء الذي تبديه بعض دول الإقليم للحكومة المصرية، والتحالف الشرير بين هذه الدول وتنظيم "الإخوان" وبعض الجماعات الإرهابية، يضيق خيارات المصريين السياسية، ويدفعهم إلى مناصرة الحكومة، وتدعيم مركزها السياسي، لمواجهة ذلك الاستهداف.

يقتضي الإنصاف أيضاً الإقرار بأن الرئيس السيسي يتمتع بشعبية كبيرة في مصر؛ وهو وإن تراجعت شعبيته، شأنه في ذلك شأن معظم الرؤساء بعد انتخابهم للمرة الأولى في معظم بلدان العالم، فإنه يعد فعلاً السياسي الأكثر تمتعاً بالثقة في البلاد، خصوصاً أنه خاطر واجتهد لكي يخلص مصر من حكم كاد يطيح بهويتها.

ينتمي السيسي إلى المؤسسة العسكرية المصرية، ويمثلها، ويعد رمزاً لها وقائداً معتبراً، وهي مؤسسة تحظى بمكانة خاصة لدى المصريين، ويمكن القول إنها تكاد تكون في موضع "قداسة".

لكن هذه العوامل وحدها لا تفسر هذا الفراغ السياسي الكبير، ولا تبرر الإحجام عن التنافس، خصوصاً أن هناك قطاعات معارضة معتبرة، وثمة سياسيون يمكنهم المنافسة، وقد أعلن بعضهم رغبته في ذلك، وسعى إلى النزال، لكنهم أطيحوا واحداً تلو الآخر، وتم إقصاؤهم عن المضمار.

"مبدأ التباين" يعزز خواء السياسة في مصر، فالمصريون، في مجموعهم العام، يقارنون بين الأحوال في ليبيا وسورية واليمن والعراق، وبين الأحوال في بلدهم، فيصرون على تثبيت الأوضاع على ما هي عليه، ويميلون إلى التضحية بطموحات الديمقراطية والتحديث، في مقابل تفادي المخاطرة بالأمن والخبز وبقاء الدولة العتيدة.

الإعلام بات منصة واحدة، تبث صوتاً واحداً، وتؤدي دوراً محدداً أغلبه تفسيري وتبريري ودعائي، والمجال العام بات أضيق من أي وقت مضى منذ سبيعنيات القرن الماضي، والقوانين الصارمة تكفلت بضبط حركة الجمهور في الشوارع.

لذلك، فإن مصر شقت فرعاً جديداً لقناة السويس، وعومت سعر العملة الوطنية، وشرعت في إنشاء عاصمة إدارية جديدة، واتخذت مساراً اقتصادياً يركز على التوسع العمراني في مقابل التصنيع، وتخوض حرباً في سيناء، من دون نقاش، ولا تدافع، ولا طرح للبدائل، ولا حساب للتكلفة، ولا محاسبة على العوائد.

سيفوز السيسي بولاية جديدة، وهو يستحقها، وستمر السنوات الأربع، وستكون صفحة السياسة خاوية، وسيقف المصريون لا يعرفون ما الخطوة التالية... وهو أمر خطير.

* كاتب مصري