الرواية فن بحق قادر على الإتيان بسحره من أي بداية كانت ومن أي منظور كان، ولأي موضوع أو فكرة أو حتى وجهة نظر من زاوية مختلفة، وهذا ما أثبتته رواية "الذواقة" للكاتب الصيني لو وين فو، الذي أبدع في كتابة رواية موضوعها الطعام أي الطبخ، ومن هذه النقطة ابتلع التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتراثي، وكل ما مر على الصين من تغيرات وتحولات كبيرة وأزمات عظيمة، كلها انصهرت وهُضمت من خلال تناوله لثقافة طبخ وتناول الطعام، وتأثير وفرة الغذاء أو نقصه على سلوك الناس وعاداتهم.

بطل الرواية الرئيس هو الطعام واختلاف طريقة إعداده وتناوله عند الرأسمالي تشو زي تشي، وبين أحد المشاركين بالثورة التي من أهدافها البعد عن البذخ والإسراف، وهو قاو شياو تينغ شخصية الكاتب الحقيقية، ومن طريقة تعاملهما وتعاطيهما للطعام تمر أحداث الصين كلها أمام إدراك القارئ، فقد عاش قاو شياو تينغ طفولته وصباه في منزل الرأسمالي تشو زي تشي الذي أسكنه ببيته مع أمه من دون إيجار، بسبب قرابة بينهما بعد وفاة والده، فقط ليحرسا منزله والأم تقوم بالأعمال المنزلية، والصبي يقوم بالمشتريات، ومن هنا ينشأ لدى الفتى قاو الحقد الطبقي بسبب طريقة تناول تشو زي تشي للطعام الفاخر وشرهه، وتفننه في الإسراف بالتهام الأنواع الفاخرة منه.

Ad

بعد انضمام الفتى قاو إلى الثورة، بدأ بتطبيق أفكارها على طريقة تناول الطعام في المطاعم، وهذه التطبيقات تتغير حسب ما يمر عليها من سنوات رخاء أو سنوات قحط، تتحول فيها رغبات الاستهلاك لدى الصينيين، وهذا مقتطف: "أود فقط إطلاعك على ظاهرة فسيولوجية عجيبة، حاسة التذوق لدى البرجوازيين في الواقع لا فرق بينها وبين حاسة التذوق لدى البروليتاريين، الرأسمالي يرى أن الروبيان المقلي أشهى من الملفوف بشرائح اللحم الرفيعة، وإذا تذوقه البروليتاريون سيرغبون في تناوله كذلك".

تتغير طريقة التعامل بينهما بحسب التحولات الحزبية والقضية الشيوعية والحملة ضد البرجوازيين اليمينيين، وفترة القفزة الكبرى إلى الأمام، وبعدها فترة المجاعة الكبرى التي نتجت من كوارث الطبيعة، امتدت لثلاث سنوات حصدت ضحايا ما بين 20 و43 مليوناً، تغير فيها نظام الأكل تماماً، وتغير سلوك الناس في فترة الثورة الثقافية، التي أدت إلى التصحيح والتشكيك في نوايا وسلوك العاملين بالشأن العام، التغيرات انعكست عليهما معاً، فتغير سلوكهما وتعاطيهما مع بعضهما البعض، بحسب اختلاف وجهات النظر وفقاً لمعطيات الفترة الزمنية التي يمران بتحولاتها، فما بين الكراهية والاتهامات، وما بين الصعود والنزول في سلم المجتمع والسلم الوظيفي، تستمر العلاقة بينهما، بعد أن تتخذ لها وجهاً جديداً، فيتحول الرأسمالي تشو زي تشي، بسبب خبرته الكبيرة بأصناف الطعام ومذاقاتها إلى ذواقة، يلقي المحاضرات في المطعم الشهير الذي يديره قاو زي تشي، قريبه الفقير، وبهذا تنتهي الرواية لتبين للقارئ كم مر على الصين من تحولات حتى وصلت إلى الاستقرار والتوازن والثراء، وكل هذه التطورات تنعكس على الطعام وطريقة تناوله، وهذا اقتباس يبن ذلك: "ولم أكن مستعداً لأن يكون "الذواقة" في الأمر كذلك، عفريت الطعام، الشره، وغيرها من الألقاب التي عفا عليها الزمان، الذواقة كان لقباً ذا وقع لطيف على الأذن، يمكن أن يحقق أرباحاً طائلة، مثل الطعام السريع بالضبط، وإذا ما أُنشئت جمعية عالمية للذواقين، فيمكن لتشو زي تشي أن يكون نائب رئيس الجمعية، والرئيس يمكن أن يكون فرنسياً، ولكن منصب نائب الرئيس سيكون من نصيب الصين بكل تأكيد".

الملاحظة الغريبة هي طريقة العقاب البريئة التي تشابه عقاب التلاميذ في المدارس، لكنها هنا هي عقاب للكبار، وتدل على مقدار شرف وصدق ونزاهة الضمير، وتعتبر عقاباً قاسياً في الوقت ذاته أن يقوم الذي ارتكب خطأ ما بحق الآخر أو حتى بحق الدولة بالاعتذار أمام الجميع، ويقر بالتوبة التي تدل على مصداقية الشرف، برغم من أن الاعتذار والتوبة هي لذنب بسيط لما ترتكبه الشعوب اليوم من اختلاسات وسرقات بالمليارات وغياب كامل لما يُسمى بالضمير الإنساني، وهذا مقتطف يبين نوع ما يستحق الاعتذار أن يكون الشخص نهماً: "وكانت المرة الأولى التي يتحدث فيها عن الملح لا بأس بها، ولا يمكنني نبش ماضيه، وأقول إنه كان شخصاً نهماً على الدوام، ويرفض التوبة".

هذه الرواية نالت وسام الفارس الفرنسي في الفنون والآداب.