ليس فيلماً ذلك الذي شاهدناه في الدورة الرابعة عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (6 – 13 ديسمبر 2017)، ضمن برنامج «ليال عربية»، تحت عنوان «على كف عفريت» (تونس / 2017/ 100 دقيقة )، بل كابوس بمعنى الكلمة. فالفيلم الذي كتبته وأخرجته كوثر بن هنية، في ثالث تجربة لها بعد «شلاط تونس» و{زينب تكره الثلج»، وسبق عرضه ضمن برنامج «نظرة ما» في «مهرجان كان»، وحمل بالإنكليزية عنوان «الجميلة والكلاب» The Beauty and the Dogs، وبالفرنسية {الجميلة والأوغاد} La Belle Et La Meute ، يصرخ في وجوهنا مندداً بالقهر الذي تتعرض له الفتاة الشابة {مريم} (مريم الفرجاني)، التي يقودها حظها العاثر إلى حضور حفل طلابي في أحد الفنادق التونسية، وتلتقي {يوسف} (غانم زريلي)، الذي ينتحي بها في مكان معزول على الشاطئ، ويندمجان في قبلة تقودها إلى اغتصاب مروع من رجال الشرطة. وعندما تحاول إثبات الواقعة، وإدانة مغتصبيها، بتحريض من {يوسف} الذي يُشجعها على تقديم البلاغ، تُفاجأ بتواطؤ سافر من الأجهزة الأمنية، ودخولها في دائرة جهنمية يبذل رجال الشرطة خلالها قصارى جهودهم لتبرئة زملائهم، واتهامها في شرفها، مستخدمين أشكال الضغط النفسي والمادي كافة، لإجبارها على التراجع عن شكواها!

ليلة بطولها دارت فيها الأحداث، في تسعة فصول، انتقلت فيها الكاميرا (تصوير يوهان هولمكويست) بين المستشفى ومخفر الشرطة، تعرضت الفتاة خلالها لشتى أنواع القهر والإذلال والمهانة والتحرش والابتزاز، فيما أصبح {يوسف} مُعرضاً للاعتقال، بعد التفتيش في ماضيه السياسي. لكن الفتاة الشجاعة صاحبة الإرادة الفولاذية تواصل سعيها إلى انتزاع حقها المغتصب، واستعادة كرامتها المهدورة، التي لا يبررها قول المحقق (الشاذلي العرفاوي) بأن {الوطن على كف عفريت}، وأن {عليها أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية للحفاظ على أمن واستقرار تونس الخضراء بمنأى عن الذين يريدون إخراج رؤوسهم، لينهشوها، ويغتصبوها، ويجعلوها مرتعاً للإرهابيين، والعصابات، والميليشيات}!

Ad

إنها سياسة {دفن الرؤوس في الرمال}، بحجة أن الحفاظ على الأمن يخول للقيمين عليه انتهاك الحرمات، واغتصاب الحقوق، وسلب الحريات، ولما ترفض {مريم} الخضوع للمنطق الفاسد، وتُصر على إبلاغ الصحافة بما تعرضت له، يتم تهديدها بالاعتقال، والسجن مدة ستة أشهر، بتهمة الزنا والإخلال بقوانين البلاد، وارتكاب فعل فاضح يتعارض والأخلاق الحميدة، والآداب العامة، ويُخل بالحياء العام!

واقعية مؤلمة وقاسية اعتمدت على واقعة حقيقية جرت في العام 2012، ومع هذا تعمدت المخرجة إلقاء مسؤوليتها على النظام السابق، برئاسة زين العابدين بن علي، وهي الثغرة التي أصابت الفيلم في مقتل، فإلصاق التهمة بالعهد السابق، خصم من جرأة الفيلم، ومن قوته في مناهضة أشكال القهر والاغتصاب في كل العهود. كذلك التركيز على فساد الجهاز الأمني، وإظهار رجاله بأنهم حفنة من الأشرار أقرب إلى رجال العصابات أضفى على الفيلم مبالغة ممقوتة، وأوقعه في فخ التكرار، بدلاً من التكثيف والاختزال (مونتاج نادية بن رشيد)، رغم الإثارة، وكم التشويق، الذي حملته الأحداث، ونجاح المخرجة في التحريض ضد مرتكبي الانتهاكات اللاإنسانية، عبر جرعة هائلة فضحت الممارسات القذرة التي تولد الغضب والأسى والمرارة!

{على كف عفريت}، الذي تحمس لإنتاجه حبيب عطية ونديم شيخروحه، يُعد صرخة في وجه القهر، والقمع، وإهدار الكرامة الإنسانية، كما توافرت له عناصر فنية جيدة، على رأسها الموسيقى الهادئة، والمُعبرة (موسيقى أمين بوحافة)، والأداء التمثيلي الذي لا يعرف الصخب (مريم الفرجاني، وغانم زريلي، والشاذلي العرفاوي)، وإن مال أداء بعض ممثلي الأدوار الثانوية إلى المبالغة، شكلاً ومضموناً (محمد العكاري في دور الضابط ذي الوشم كونه يحاكي أبطال أفلام {الويسترن} والعصابات الأميركية، وهو آخر أدواره بالمناسبة إذ توفي بعده). لكن العمل، في مجمله، يمثل إضافة حقيقية للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، التي تتبنى، في أفلامها القليلة، خطاً وأسلوباً لا يمكن تجاهلهما، حيث اعتادت النهل من الواقع لتصنع الروائي، واستمرأت فضح الانتهاكات و{المسكوت عنه}، وإن بدت جرأتها مقصورة على التنديد بالعهد السابق، كما فعلت في فيلمها {شلاط تونس}، الذي اعتمدت فيه على أرشيف الشرطة بعد الثورة، واختارت واقعة جرت في شوارع العاصمة التونسية سنة 2003، لكنها وظفتها لإدانة النظام السابق. وعندما استوحت فيلمها {على كف عفريت} من قصة واقعية وقعت فصولها في العام 2012، أي بعد ثورة الياسمين، أرادتها فرصة للتنديد بالانهيار الحاصل في المجتمع التونسي ما قبل الثورة!