تجلى اللاعب المصري الفذ محمد صلاح بفنه وإبداعه في كرة القدم، وهو في طريقه ليكسر أرقاماً قياسية لم يصلها أحد قبله. في المباراة الأخيرة بين ليفربول وتوتنهام، وهما الفريقان المفضلان عندي في الدوري الإنكليزي، أبدع هدفه الثاني، الذي سيستمر الحديث عنه كأحد الأهداف المميزة. كنت قد تطرقت إلى إسهامات سيريل ريجيس في الدوري الإنكليزي في تجفيف مياه العنصرية الراكدة بملاعب كرة القدم. حتى فاتت الأمور من عنق الزجاجة، وصار اللاعبون الأغراب مقبولين ومحتفى بهم، وتراجعت قيم العنصرية في الملاعب إلى حد كبير.

منذ مدة أتعامل مع الرياضة، بالإضافة إلى كونها تسلية ووسيلة إمتاع، كأداة فاعلة للإدماج الاجتماعي. وأقوم منذ فترة بدراسة واسعة مع باحثين من ثقافات مختلفة، لتطوير أدوات "خارج الصندوق"، لتخفيف حالة العنصرية والكراهية في العالم، وتتمثل الرياضة كأبرز تلك الأدوات. لديزموند موريس كتاب قديم بعنوان "قبيلة كرة القدم"، حاول فيه تحليل الحالة النفسية للجمهور، فيتحولون إلى حالة نفسية فائرة، تشتعل من تحتها نيران الحماسة، ويتحول اللاعبون إلى ما يشبه فرسان القبيلة ضد قبيلة أخرى، بالطبع دون سلاح، وشيئاً فشيئاً يصبح اللاعب فارساً محسوباً على القبيلة حتى لو كان المتفرج ينظر إليه بحياته الخاصة بدونية. وعندما يبدع ذلك اللاعب يصبح معشوقاً من تلك الجماهير حتى تلك التي لها شطحات عنصرية. فما إن تنتهي المباراة حتى تعود النفوس إلى الهدوء النسبي ثم المطلق. وبالتدريج يعزل العنصريون العتاة، وتتم محاصرتهم بتشريعات تجرم. بطبيعة الحال ينعكس ذلك بالتدريج على الحياة العامة، وإن كان تحريكها ضد العنصرية أكثر صعوبة.

Ad

محمد صلاح، الفنان، صار يعبر عن فرحه بتسجيل الأهداف، وقد سجل الكثير منها، إضافة إلى احتضان لاعبي الفريق والقفز المعتاد، بالسجود على أرض الملعب، وهي ملامح إسلامية، ومغايرة لما هو سائد، عند كثير من لاعبي كرة القدم، وخصوصاً القادمين من أميركا اللاتينية، بسبب ثقافتهم الكاثوليكية، حيث يقومون بلمس الأرض ثم تحريك اليد بشكل الصليب على الرأس والصدر، وهي حركة تقليدية أكثر منها دينية. سلوك محمد صلاح ومن سبقه، رغم ما فيه من إيحاءات دينية، لم ولن يجد في هذه الحالة أي اعتراض، وسيظل يحظى بترحيب وتقدير جماهير ليفربول وجمهور كرة القدم العريض الباحث عن المتعة الكروية السلمية والبريئة. هو تثبيت للتعددية والتعايش بين البشر، والذي بدونه سيفنى كل البشر. هناك ما يزيد على ٥٠ لاعباً مسلماً من ١٨ دولة مختلفة يلعبون في الدوري الإنكليزي، وهو أمر كان مرفوضاً في سبعينيات القرن الماضي، فهم اليوم يقدمون لعباً متميزاً يطرب الجماهير المتشوقة للانتصار. لم تكن هناك فرصة للفرنسيين العنصريين أن يتقبلوا الأجانب والعرب بترحيب إلا بعد فوزهم بكأس العالم سنة ١٩٩٨، بل إن صور لاعبي الفريق، الذين كان أغلبهم من المهاجرين، تم وضعها بالضوء على قوس النصر في باريس، وظل الناس يرقصون ويغنون احتفاءً بصورة زين الدين زيدان. على الساحة الدولية كانت الرياضة أداة تفكيك أساسية لنظام "أبارثايد" بجنوب إفريقيا، وقبله نظام الأقلية البيضاء العنصرية بروديسيا، كما تتعرض إسرائيل لضغوط مهمة منذ فترة، تحتاج منا إلى متابعة لتفعيلها، وبطبيعة الحال سيصب ذلك في مواجهة العنصرية وخطاب الكراهية المقيت الذي دمر الأرض والعرض، وقضى على الحرث والزرع.

نقطة ضوء في ظلام دامس، ربما، ولكن لم لا؟